الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

ملف على طاولة وزير الثقافة.. في الحاجة إلى إنقاذ المآثر التاريخية من النهب والتدمير

ملف على طاولة وزير الثقافة.. في الحاجة إلى إنقاذ المآثر التاريخية من النهب والتدمير تعكس تدمير المعلمة التاريخية قصبة القادي حاجي

ثرواتنا المادية واللامادية تتعرض للدمار المتوحش، والنهب المستمر، والنسيان الفظيع، في الوقت الذي كثر فيه الكلام عن التثمين والتحصين والبحث عن أنجح السبل لتقديم نموذج تنموي ناجح خارج القوالب الجاهزة.

إن الوقوف على منصة مشاهدة أقدم مصطاف يربط بين قبائل الشياضمة رتنانة وعبدة، (بحاضرة المحيط ) يجعلك تكتشف ما تزخر به المنطقة البحرية برمال شاطئها الذهبية وأشجارها المنتجة ونباتاتها العطرية من مؤهلات طبيعية وسياحية مهمشة ومنسية...

من عند نقطة مصب واد تانسيفت جنوبا ومسح عيني للحصن البرتغالي شمالا، مرورا بزاوية الولي الصالح سيدي حساين الرجراجي، والوقوف على أوضاع قصبة القايد حميدوش ومآثرها التاريخية الممتدة على مساحة أكثر من 40 هكتار، والشاهدة على عظمة الحضارة المغربية، كل هذه الكنوز الثمينة التي لا تقدر بثمن تجعلك تستكشف هول ما تبقى من معمار وآثار عمرانية لقصبة القائد حجي التي تبهر الزائر بأبوابها وأقواسها ونقوشها وفسيفسائها ورونق أروقتها.

 

عبر الطريق الساحلية رقم 301 "المتهالكة والمتآكلة" الرابطة بين مدينة آسفي ومصطاف الصويرية القديمة (30 كلم)، تستقبلك مشاريع ملكية استثمارية ضخمة بالقرب من جماعة أولاد سلمان (الميناء المعدني المحطة الحرارية)، وتستطيع عين الزائر أن ترسم بمشاعرها صورا ممتعة لجمالية المكان وطبيعته الخلابة، ينطقها حزام أخضر لأشجار شكلت غابة تعزف أوراق أغصانها سمفونية الهدوء والسكينة والطمأنينة في تناغم مع أصوات موج البحر على امتداد طول شاطئ يعانق مصب نهر تانسيفت جنوبا.

ومن أعلى هضبة "قصر النملة"، التي تطل على سكنيات جميلة بهندستها المعمارية المطلية باللونين الأبيض والأزرق والتي فضل مالكوها إغلاق أبوابها ونوافذها إلى فترة الاصطياف لتعيد لها حرارة الشمس ورمال شاطئ الصويرية حركيتها السياحية والتجارية والتواصلية، وترمق العين فضاء مدخل "لمريسة" التي احتضنت قوارب صيد السمك المستعدة في كل حين لاستنطاق ثروتنا السمكية الخاضعة لمزاج المحتكرين وأباطرة البحر.

 

كانت المنطقة مرفئ بحريا لمدينة أغمات:

كانت لحظات ممتعة لاسترجاع زمن ذاكرة عظمة الإبداع الإنساني، بسحرها وعبق نفحات التاريخ والجغرافيا التي تفاعلت معها عبقرية الإنسان الذي خلد أروع الصور الممتعة ليحكي سبب استقراره هنا ذات فترة تاريخية بَصَمتْ المنطقة بجمالها الساحر والأخاذ، مبدعة لوحة تشكيلية بانسياب مياه واد تانسيفت التي تعانق أمواج البحر وتغازل أشجار الغابة...

وقد كانت هذه المنطقة، وفق تصريح الأستاذ حمزة مصطفى، قبل بناء مدينة مراكش، تشكل مرفئ بحريا لمدينة أغمات.. "اختيار المكان لم يكن اعتباطيا، بل خضع لشروط الاستقرار البشري الذي فطن لمجال جغرافي تتوفر فيه المناطق الثلاثية"، يقول أحد المهتمين بالبحث التاريخي والثقافة البيئية. وأضاف شارحا هذا الاختيار الذي يعود لأهمية المنطقة عبر التاريخ "إن التقاء مكون الواد والبحر، وغنى المنطقة بالمجال الغابوي يعتبر ثلاثية أساسية تشجع على الاستقرار البشري". فالواد رافد للحياة ويوفر كل سبل العيش والتنقل بين الضفتين واستغلال كل ما يجود به من خيرات وإمكانيات على المستوى الفلاحي والزراعي، أما البحر فهو واجهة للملاحة والصيد والتجارة وبوابة انفتاح على الآخر، والغابة مجال بيئي ضامن لشروط الاستقرار على جميع المستويات الحياتية.. هي ثلاثية اعتمد عليها الإنسان بمنطقة كانت تعتبر طريقا للقوافل اقتصاديا وتجاريا وجهاديا ودينيا للفاتحين والمستكشفين.

 

 

قصبة بن حميدوش الضائعة:

ونحن نسير على ضفة نهر تانسيفت جنوبا، حجبت أشعة شمس ذاك الصباح، غيوم ملبدة فوق سماء قصبة بن حميدوش، وتعطلت رائحة نبض الحياة بين أسوارها ولم تبددها سوى حركة سريعة لسنجاب جميل يحرس أقواسها وفضائها بخفة حركاته ونظراته التي رحبت بنا عند مدخل القصبة التي زينتها فضاءات نباتية بمختلف فصائل الأشجار والأعشاب الموحشة التي تستقطب أنواع مختلفة من الوحيش ليل نهار (خنزير بري، أرانب، حجل، وثعابين...).

 

موقع دار القايد حجي :

في لقاء بالأستاذ محمد الصوبة أخ الفنان الشعبي (ولد الصوبة الرجراجي) أكد بأن  دار القايد الحاجي، المعلمة التاريخية  تابعة لنفوذ الجماعة الترابية المعشات باقليم أسفي، على الطريق الساحلية الرابطة بين أسفي والصويرة ، وتبعد عن حاضرة المحيط بحوالي 40 كلمترا، وينتقل لوصفها كونها "شيدت على ربوة  عالية تطل على المحيط الأطلنتي وتلال جبل الحديد و باقي التلال الممتدة في الشرق والشمال، كما تشرف على السهل الفيضي الشاسع  لنهر تانسيفت ومصبه، وهي تحتل مساحة تصل إلى ثلاثة هكتارات تقريبا، في شكل قد يكون مربعا". ويستفيض في تقديم شروحات تاريخية مرتبطة بفترة التأسيس قائلا: "الدار/القصبة شيدت على يد القواد الحاجيين، الذين حكموا الشياظمة الشمالية من القرن 19 إلى منتصف القرن الماضي وهم: القايد مبارك وعباس وأحمد واحميدة، وأصلهم من البيرات ومن أولاد بوالسبع".

 

ويؤكد محمد الصوبة بأن الدار أنشاها في البداية "القايد مبارك على عهد السلطان مولاي عبد الرحمان واتخذها مقرا لحكمه، لكنها بلغت شأوا كبيرا أيام القايد أحمد الملقب بالقايد الكبير والذي تميزت فترة قيادته بالصرامة وضبط أمور القيادة في عصر تميز بظاهرة "السيبة" كما تطورت الدار أيام القايد احميدة آخر قواد الحاجيين 1956".

 

وفي سياق متصل يصف نفس المتحدث دار الحاجي كانت "ذات شكل هندسي بديع، وزخارف من الزليج الإسباني الرفيع، وتتوسطها رياضات وعدة دور ذات غرف، ومسجد وكتاب ومحكمة وسجن صغير وقاعات للاستقبال وسكنى للقايد وأخرى لخليفته... وكانت بذلك تغص بأهل الدار والخدم  والحرس، ولها بابان، هما باب النحيلة وباب البير، حيث كان يصفها البعض بـ (دولة في قلب دولة)، للاستدلال على مدى سلطة القايد في فترة قيادته والتي تميزت بالتكالب الاستعماري واشتداد النزاعات القبلية والأسرية وسيطرة الاستعمار فيما بعد...

 

جولة "أنفاس بريس" مكنتنا من استكشاف قصبة سميت بقلعة بن حميدوش نسبة لأحد القادة الذي كان مسئولا على إدارتها اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا.. وقد شيدت لتحصين منطقة دكالة وعبدة وبهدف حراسة الموقع. حيث تقف منتصبة شامخة بمعمارها الأصيل الشاهد على عبقرية الإنسان المغربي وعراقة المكان وموقعه الذي اعتمد على هندسة رائعة في البناء والجهد العضلي تجسدت في شكلها الهندسي المستطيل والذي تطوقه ثلاثة أحصنه منيعة، منها سور خارجي عال وسميك البنيان شيدت فوقه ثمانية أبراج للحراسة العسكرية والمراقبة المجالية بشكل محكم ودقيق، وتتوسطه، حسب شروحات "مرافقنا"، آثار بناية إقامة دار الحاكم التي كان يستوطن بها أولاد بن حميدوش عمال الشياضمة.

 

في نفس السياق أكد الأستاذ الباحث المصطفى حمزة أن هذه الدار كانت تضم "مسجدا ومنارا هدما بعد سنة 1912 إضافة إلى مخازن وأهرية ومطامير خاصة بتخزين المحاصيل الزراعية، وإسطبلات خاصة بالمواشي وخيول الفرسان وإبل لنقل الحمولات للمناطق المجاورة الخاضعة لحماية وأمن أولاد بن حميدوش، فضلا عن أنها كانت تضم مشور سكن الحاكم ومسجدا ومقرات للحامية العسكرية".

 

ولم يفت الباحث مصطفى حمزة أن يؤكد على وجود فضاء حديقة كانت تحتوي على الكثير من الأغراس والأشجار الوارفة والمتمرة لا تزال معالمها وطرق سقيها بارزة.. هذا فضلا عن سور ثان داخلي، والذي يحصن القصبة تحصينا كليا من الهجمات والضربات المباغتة، ويضمن الأمن والحماية الكلية لقصبة بن حميدوش، لتنتهي عبقرية الهندسة العسكرية بوضع تحصين عبارة عن ممر مائي عبر خندق يحف القصبة ويؤمن موقع مشور الحاكم ويعزز صلابته دفاعيا، ويتم تزويده بالماء من مصب واد تانسيفت كحاجز وقائي للقصبة عبر تقنية قنوات أبدعت اختراعاتها عبقرية الإنسان.

 

 

قلعة بن حميدوش شاهدة على العصر.. تستغيث:

الأستاذ حمزة مصطفى يؤكد أن قصبة بن حميدوش يرجع تاريخ تأسيسها، حسب مصادره التاريخية، إلى "فترة المولى إسماعيل خلال بداية القرن 18"، حيث يعتبرها النموذج "الحضاري للفن المعماري المغربي الأصيل بالعالم القروي من حيث الشكل الهندسي ومواد البناء.." ويصر في حديثه للجريدة على أن "معالمها ومآثرها قادرة على أن تقدم كذلك معطيات جد هامة للمهتمين والباحثين والدارسين لمثل هذا النوع من القصبات، بل إن الزائر للمكان تمكنه معالمه من استنتاج مشاهد بانورامية تجمع بين سحر وجمالية المكان وعلاقته بالواد والبحر وفضاء الغابة".

 

قصبة بن حميدوش بمنطقة الشياضمة الرائعة الشاهدة على العصر، تعتبر ذاكرة وموروثا ثقافيا وإنسانيا وجب تحصينه، وتستحق أن تتحول لفضاء ومرفق سياحي يستقطب كل شرائح المجتمع المغربي للوقوف على عظمة تاريخنا ورجالاته، وتدعو مؤسساتنا للقيام بأدوارها في أفق تثمينها ورعايتها والاهتمام بها من طرف وزارة الثقافة والسياحة والتعليم وكل المتدخلين لحمايتها من النهب والسلب والتدمير الوحشي الذي تتعرض له من طرف صعاليك زمن التنقيب والبحث عن الكنوز.. فأكثر من 30 حفرة تشهد على مرور لصوص ذخائر التاريخ المغربي في غياب السطات المعنية لترجمة أهمية الموقع سياحيا وإيكولوجيا وحضاريا.