أيام قليلة بعد اليوم العالمي للمدرس (5 دجنبر)، تحركت آلة العنف الممارس ضد الهيئة التعليمية من جديد، في عدد من المؤسسات التعليمية عبر التراب الوطني، كان آخرها أستاذ "فاس" الذي تعرض لاعتداء قبل أيام (24 أكتوبر 2019) بعد خروجه من الثانوية التأهيلية التي يشتغل بها، إذ اعترض سبيله ثلاثة تلاميذ، عرضوه لعنف جسدي، نتج عنه كسر على مستوى رجله اليمنى، بسبب رفضه مدهم بمبلغ مالي طلبوه منه، مما استلزم نقله للمستشفى لتلقي العلاج الضروري، وقبله حالة أستاذ "حد السوالم" الذي تم رشقه بحجارة من قبل شقيق تلميذة، ألحقت به جروحا على مستوى الوجه، نقل بدوره إلى المستعجلات لتلقي الإسعافات الضرورية، وفي كل حالة عنف، نكتفي بإشهار أسلحة الإدانة والتنديد وتقاسم صور الضحايا، عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، أو القيام بزيارات تفقدية للضحايا، وبعدها تعود حليمة إلى حالتها القديمة، وتهدأ العاصفة، في انتظار حالة عنف جديدة، تكسر حاجز الصمت، وتفرض علينا مرة أخرى الركوب على صهوة الادانة والاحتجاج إلى أجل غير مسمى ..
الإبقاء على المشهد كما هو عليه، دون تحريك ساكن، معناه أننا نساهم بشكل أو بآخر في صناعة عنف مدرسي آخذ في التمدد والانتشار، تارة بالفرجة والتردد، وتارة ثانية بالحياد السلبي، وتارة ثالثة بالبكاء على الأطلال وإشهار أسلحة الإدانة والتنديد، وتارة رابعة بالتراخي والتقاعس في فرض شروط النظام والانضباط داخل الفضاءات المدرسية، والتهاون في زجر المنحرفين والمتهورين من التلاميذ، وليس معنى هذا أننا نحمل "المدرسة العمومية" المسؤولية كاملة في صناعة عنف يبدو كالمرض العضال، هي صناعة موازية تتم عملياتها خارج الفضاءات المدرسية، في عدد من "مؤسسات التنشئة الاجتماعية"، من "أسرة" و"مجتمع مدني" و"دور الشباب والرياضة" و"إعلام" و"أحزاب سياسية" وغيرها، إذ كلما تراجعت أدوار هذه المؤسسات في التربية والتأطير والمواكبة والتتبع، كلما ساهمت - بقصد أو بدونه - في صناعة عنف، تتحمل وزره "المدرسة العمومية"..
وعليه، وفي ظل ارتفاع منسوب هذا العنف في الأيام الأخيرة في عدد من المؤسسات التعليمية، ونظرا لما لذلك من تداعيات متعددة المستويات على المنظومة التعليمية، وعلى رأسها المساس المستدام بصورة ورمزية المدرس(ة)، وتعميـــق الإحساس بانعدام الثقة في المدرسة العمومية، وحتى يتسنى توفير المناخ الملائم للإصلاح الذي بشرت به "الرؤية الاستراتيجية للإصلاح" والقانون المؤطر لها، آن الأوان، للتعجيل باتخاذ تدابير وإجراءات عملية، ليس فقط، من أجل محاصرة انتشار المرض المزعج الآخذ في التمدد والانتشار، ولكن من أجل القطع معه بشكل لا رجعة فيه، شأنه في ذلك، شأن جملة من الممارسات التربوية التي لازالت حاضرة بدرجات متفاوتة في عدد من المؤسسات التعليمية.
والوصفة الناجعة، تحتاج إلى تركيبة ثلاثية الأبعاد، أولها: تنزيل تشريع مدرسي من شأنه ضمان الحماية المأمولة لكل الفاعلين في المشهد الدراسي (أطر إدارية، أطر تربوية، متعلمون ..)، ثانيها: مراجعة شاملة للمضامين (مناهج، برامج ..) ولطرائق التدريس، بشكل يقطع مع الرتابة المكرسة للتهور والتسيب والعنف، ثالثها: تحسين وتجويد بنيات الاستقبال من أجل كسب رهان "مدرسة عمومية" جذابة متفتحة على "تكنولوجيا الإعلام والاتصال"، تسمح باحتضان الطاقات والمواهب والقدرات، غير هذا، سنظل وجها لوجه، أمام "عنف" نصنعه بصمتنا ولامبالاتنا وترددنا في اتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات، وأقصى ما نفعله، حزمة إدانات وتنديدات، نشهرها في كل مناسبة، تبدو كالمسكنات التي لا يتجاوز مفعولها حدود إخماد الألم، في انتظار صناعة "التركيبة" الناجعة، القادرة على استئصال الداء المزعج بشكل لا رجعة فيه، من أجل فضاءات مدرسية، تحضر فيها مفردات "النظام" و"الطمأنينة" و"الإبداع" و"التميز" و"الحياة".