قادنا التعديل الحكومي الجديد إلى تشكيلة يطغى عليها التقنوقراط، على عكس الارادة الشعبية التي أفرزت حزبا لا يتمتع بالقوة الكافية لتنزيله برنامجه، مما جعله يخضع دون إرادته إلى منطق التحالف الهجين والمزاجي الذي لم يلبي تطلعات وانتظارات المواطنين بالشكل الكافي.
هل عجزت الديمقراطية عبر آلياتها ووسائلها عن التعبير عن انتظارات وهموم المواطنين؟
للإجابة عن هذه السؤال يجب الرجوع إلى أصل النظام الديمقراطي، حيث انطلقت الديمقراطية من أثينا منذ عام 550 قبل الميلاد وتم تشكيل الحكومة وفق نظام الديمقراطية المباشرة، والتي أعطت الحق لكل مواطن في التصويت. مما مكن بعض الافراد من غير المنتمين الطبقة الارستقراطية الحاكمة من السيطرة على حكم أثينا، وهو ما جعلها عاصمة للديمقراطية ومهدا للحضارة الانسانية.
ولكن هذا لم يشفع للنظام الديمقراطي وجعله يتلقى انتقادات لاذعة وكشف عن وجهه البئيس، حيث تحولت فئة من الناس العاديين المحكومين إلى فئة حاكمة وتحولت الطبقة الارستقراطية من حاكمة إلى محكومة.
أفلاطون لم يتقبل فكرة قيام جمهورية ديمقراطية، بحجة أن الحاكم سيحاول أن يتقرب إلى شعبه عن طريق إرضاء شهواتهم، مما سيجعل الشهوات والغرائز تطغى على نظام الحكم، وسيجعل الحاكم صديق للشعب ومنافق لهم ولن يتخذ القرارات السليمة.
ويعتقد أفلاطون أيضا أن النظام الديمقراطي يقود الدولة التي يحكمها بحسب أهواء وشهوات الشعب وليس بحسب المصلحة العامة التي لا تتماشى في أغلب الاحيان مع تلك الأهواء والشهوات.
ويعتبر أفلاطون فيلسوفا مناهضا لقيم الديمقراطية والمساواة بعد اتهام واعدام صديقه وأستاذه سقراط من طرف الطبقة الحاكمة بسبب شكه في نظام أثينا الديمقراطي الذي قال عنه أنه ذو طبيعة شريرة و قاد الى الاستبداد والسيطرة، ولكنه يعتبر فيلسوف العدالة بإمتياز، وألهمت مدينته الفاضلة العديد من الشعوب المضطهدة.
كتب أفلاطون في كتابه الجمهورية أن معلمه سقراط سأل شريكه أديمانتوس خلال محاضرة حول الدولة المثالية، حول من كان سيفضله لإدارة مركبا عبر البحر، راكب عشوائي أم قبطان مدرب تدريبا جيدا متعلم وذو خبرة؟ وهل سنسمح لأي شخص إدارة سفينة الدولة؟
رفض أفلاطون المبدأ الذي يكفل لأي مواطن حرية التعبير عن رأيه السياسي وممارسة التأثير على سياسات الدولة، بحكم أن ليس كل المواطنين قد تم إعدادهم وتدريبهم على كيفية إدارة الحياة الاقتصادية أو العسكرية أو قد تم إطلاعهم على الوظائف المختلفة للحكومة وبالتالي فلا يمكن الإعتماد على تلك الآراء في اتخاذ القرارات الصائبة للحكومة.
وهذا ما نشهده في وقتنا الحالي، رغم أننا لدينا حكومة مختلفة عن أثينا ولكن نعيش نفس الوضعية التي كانت عليها في تلك الحقبة. كيف لا ونحن نملك دستور من أرقى الدساتير ولكن الممارسة المتخلفة أجهضت الانتقال الديمقراطي، وساهمت في تمييع الممارسة السياسية وعزوف العديد من المواطنين المتعلميين والمثقفين وأصحاب الكفاءات عن ممارسة حقهم الدستوري في الانتخابات وتسيير الشأن العام، فكيف يعقل اعطاء حق التصويت لشخص يجهل سياسة الدولة وأهدافها الاستراتيجية !
لقد كان سقراط قلقا جدا بشأن المشاكل التي يطرحها السكان غير المتعلمين، لذلك أدرج الديمقراطية على أنها النسخة الفاشلة من حكم الجموع. ويقول سقراط أن هناك شيء واحد صالح وهو المعرفة وشر واحد وهو الجهل، فالتعليم هو أفضل أمل للديمقراطية. فالشعب الذي يفهم السمات المطلوبة في زعيم ما، يميز بين كونه مخادع أو زعيما مشروعا ويعرف المسار الذي يجب أن يتخذه.
وحينما يتم رفع مستوى الشعب الذي هو صانع القرار السياسي في النظم الديمقراطية إلى أعلى قدر ممكن من المعرفة والحكمة والتفكير المثالي المرتبط بالقيم الكونية، ستتحول الديمقراطية عندنا إلى ممارسة فعالة، تتجسد فيها أقصى درجات النزاهة والشفافية و المحاسبة والكفاءة، و ليس تقليدا لنقول للغرب عندنا ديمقراطية مثلكم.
وتعيش بلادنا أزمة غياب الأطر والكفاءات عن ممارسة العمل السياسي والمساهمة في تدبير الشأن العمومي، بسبب سوء اختيار الناخب لمنتخبيه، نظرا لضعف المستوى التعليمي للفئة التي تشارك في عملية التصويت أثناء الانتخابات، والتي تتحكم فيها في أغلب الاحيان عوامل بعيدة كل البعد عن قيم المواطنة.
وفي هذا الاتجاه يؤكد أفلاطون أن السياسة هي وظيفة النفس العاقلة وأن الحكماء أحق الناس بالحكم، وأن نظام الحكم في أثينا تحول من حكم ديمقراطي إلى استبدادي نظرا لكون الحكماء يشكلون في أغلب الاحيان أقلية.
ويشترط في الحاكم الحكمة التي تعمق الديمقراطية بدل إلغائها. لهذا دعا أفلاطون إلى حكم الفلاسفة لكونهم يتميزون بالقدرة على التحرر من المصالح الخاصة والانانية الضيقة اللتان تعتبران الشرط الاساسي للتفرغ لتدبير المصلحة العامة.
وهل يمكن اعتبار حكومة التقنوقراط، حكومة إنقاد وطني؟ أم أن نظام حكم الشعب انتقل من مطرقة البيروقراطية إلى سندام التقنوقراطية؟ وهل بإستطاعة حكومة التقنوقراط أن تصلح ما عجزت عنه الحكومة المنتخبة؟ وهل العمل السياسي بحاجة إلى الكفاءة أم الفعالية؟
لا يمكن تصور حياة مجتمعية من دون حياة سياسية، فالمواطن حسب تعريف أرسطو هو شخص حاكم أو محكوم، بمعنى إذا لم يمارس السياسة ستمارس عليه. لهذا لا وجود لشخصيات مستقلة أو تقنوقراط، فإما فاعل أو مفعول، فالدولة الحديثة حسب طوماس هوبر تبنى عن طريق المجتمع المدني المتكون من الاحزاب والنقابات…
ويعتبر شرط الكفاءة من المعايير التي انتقلت من عالم المقاولة إلى الحقل السياسي المغربي، ويدعو إلى تحقيق أعلى إنتاجية بأقل تكلفة مادية ممكنة، فقد استخدم تايلور هذا المعيار لقياس كفاءة العامل، عن طريق قياس نسبة الوحدات التي ينجزها فعلا على حساب الوحدات التي ينبغ إنجازها. أما الفاعلية فتعني القدرة على تحقيق أقصى إنتاج ممكن باستخدام الموارد المتاحة أحسن استخدام ممكن.
ويتضح من خلال المفهومين أن السياسي الحقيقي يجب أن تكون له القدرة على تحديد أهداف واضحة للعمل، والقدرة على إختيار أنسب الوسائل لتحقيق تلك الأهداف، والقدرة على استخدام عناصر الإنتاج المتاحة بأقصى كفاءة لتحقيق الأهداف، وأن يراعي واقعية الأهداف المخططة، ويحسن اختيارها على أساس تقديم الأهم على المهم، ثم يحسن اختيار الوسائل والأساليب والكيفيات التي تتحقق من خلالها هذه الأهداف.
وترتبط مردودية الفاعل السياسي بثلاث عناصر وهي الشخصية والمنظمة أو الحزب والمجتمع، بحيث تتحكم هذه العناصر في أدائه، وليس فقط على الكفاءة والفعالية.
وحين تتحكم فئة أوليغارشية أو عصابة في أنظمة الحكم وتمتد أياديها إلى أجهزة الدولة، وتصبح الهيئات الوسيطة مهمشة ولا تضطلع بدور الوساطة ومتجاوزة من قبل التقنوكراسية، أنذلك سيهتم المواطن فقط بشؤونه الخاصة، وسيبتعد عن تدبير وتسيير الشأن العام، وسيمارس السياسة بطريقة غير منظمةأو مهيكلة عبر قنوات غير رسمية.
ولكي تضطلع الهيئات الوسيطة بالوساطة فعليا، وليس أن تكون وسائل للتسلق أو الانتهازية عبر تبني خطاب شعبوي، يجب إعادة النظر في القوانين المنظمة لهذه الهيئات الوسيطة، وسن قوانين انتخابية انسجاما مع طبيعة المجتمع الذي نعيشه.
حينما تفرز الانتخابات منتخب لا يحسن الكتابة والقراءة، فكيف سيمارس دوره التشريعي او التنفيذي أو التدبيري! او حينما يتم اعفاء وزير من مهامه الوزارية بسبب تورطه في قضية فساد ويتم انتخابه مرة أخرى من طرف الشعب على رأس جهة أو مؤسسة تشريعية! أو يتم انتخاب شخص متابع في قضايا مرتبطة بسوء التسيير أو فساد! وما معنى أن يظل شخص على رأس مجلس جماعي أو حزب سياسي أو نقابة لسنوات طويلة!…هذه فقط بعض مظاهر حياتنا السياسية التي نتجت عن أنظمتنا وقوانيننا الحزبية والانتخابية.
يجب اعادة النظر في هذه القوانين، واعطاء بطاقة التصويت وحق الترشح لمن يستحق وفق شروط مسبقة تضمن وصول فئة على دراية بطرق التسيير والقوانين المنظمة للمؤسسات العمومية والمجالس المنتخبة والمشاريع التنموية والمخططات الاستراتيجية…
ولن يتحقق هذا الا بمنح بطاقة الناخب لمن يتوفر على شروط معينة تحدد مستواه التعليمي والاخلاقي والسلوكي…، وتسحب ممن ثبت تورطه في فساد أو رشوة أو ريع وقضايا غير أخلاقية أو تهرب ضريبي أو تبييض أو تهريب للأموال…
الصين ستلجأ إلى اقرار نظام معلوماتي يهدف إلى تنقيط المواطنين، بحيث ستعطى نقطة او درجة عن كل خدمة قدمها المواطن للمجتمع، وستسحب نقط من مجموع النقط لكل مواطن ارتكب مخالفة غير قانونية او غير أخلاقية، وتسجل في سجل يتضمن قاعدة البيانات لتتبع تصرفات المواطنين، وسيساهم هذا السلم التنقيطي للمواطنين في تحديد درجة الاستفادة من الخدمات الاجتماعية أو الحرمان من بعضها.