الجمعة 29 مارس 2024
اقتصاد

عبد الصمد فلكي: ليس من مهام مديرية الضرائب التجسس ولعب الأدوار الأمنية  

عبد الصمد فلكي: ليس من مهام مديرية الضرائب التجسس ولعب الأدوار الأمنية   الأستاذ عبد الصمد فلكي (يسارا) وعمر فرج المدير العام لمديرية الضرائب

نشرت صحيفة "ليكونوميست"، ليوم الاثنين 26 غشت 2019 مقالا يتضمن "عزم" مديرية الضرائب في إنشاء مكتب لتعقب خصوصيات الملزمين بالضريبة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؛ وفي هذا الإطار توصلت "أنفاس بريس" من عبد الصمد فلكي، دكتور في الحقوق جامعة محمد الخامس أكدال الرباط، بهذه القراءة التحليلية لموضوع بات يكتسي حساسية كبيرة لدى المواطنين، وخاصة منهم الملزمين.

 

"ورد في صحيفة ليكونوميست ليوم الاثنين 26 غشت 2019 خبر مفاده أن المديرية العامة للضرائب ستشكل خلية استخباراتية على الإنترنت، على نمط مكاتب الدراسات والمستندات والأبحاث والتحقيقات، الموكولة لأجهزة حساسة في أي نظام وفي أي دولة، والتي يكون هدفها الحماية من الأخطار المحتملة من الداخل أو الخارج. والحال ان المديرية العامة للضرائب مكلفة بالانكباب على الوعاء ودراسة الملفات، لتحديد مبالغ الجبايات المفروضة على كل مواطن ملزم بحسب وضعيته المهنية والمادية، وأيضا بالاستخلاص في بعض الحالات وليس من مهامها لعب الأدوار الأمنية الاستباقية، وهي بهذا تكون قد تجاوزت حدود اختصاصاتها، كما تكون قد أعطت نموذجا سلبيا في مناخ الديموقراطية وحقوق الإنسان الذين يتغنى بهما المغرب بألحان رديئة.

 

إذ كيف يمكن تقبل تصريح مسؤولين، وبكل تبجح وإعجاب في اللجوء إلى مسلك الدخول في خصوصيات المواطنين، من خلال التجسس على منشوراتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، لدرجة تتبع حتى صور الرحلات السياحية وما يرتدون من ملابس ومجوهرات وما يعبرون عنه من أقوال تخص بعض الأخبار الشخصية بما يعتزمون القيام به من شراءات عقارية، والتي يمكن أن تدخل حيز التنفيذ ويمكن ألا تدخل، وتبقى مجرد نوايا وقول ذاهب أدراج الرياح.

 

يبدو أن عقلية بعض المسؤولين في المديرية لا ولن تعرف تغييرا في كيفية التعامل مع الملزمين، وأن المنطلق دائما يبتدئ لديهم بسوء النية والمواجهة والبحث عن كل السبل التي تشكل إزعاجا للملزم المفروض فيه أنه مواطن صالح طالما يؤدي واجبه بحسب مستطاعه إلى خزينة وطنه، وليس شعوره أنه “يسرق” (بضم الياء) رغما عن أنفه وبطرق تشعره أن المنظومة ككل ما هي إلا كيان يعتبره عدوا؟

 

كان حري بهؤلاء عوض الذهاب بعيدا لتقمص الأدوار الاستخباراتية التي ليست أصلا من اختصاصهم، وبدل إظهار النزعة العدائية في تدبير المصالح الضريبية، كان عليهم أن يركزوا جهودهم بخلق مكاتب للتواصل مع مختلف الملزمين تضم خبراء في المالية العمومية وممثلين عن الملزمين وأخصائيين اجتماعيين ونفسيين لتدارس أي إشكال مطروح في علاقتهم بالمديرية العامة للضرائب. وقد كنت تناولت هاته الأمور بالتفصيل في أطروحتي لنيل الدكتوراه في الحقوق، لأن الواقع والمنطق يقول إذا كنا نرغب في نظام ضريبي إيجابي وفعال ويساهم في تنمية المالية العمومية وإغناء الميزانية العامة، فالمفروض فينا نحن كفاعلين ضريبيين أن نبحث عن السبل التي تجعل العلاقة بين المديرية العامة للضرائب وعموم الملزمين علاقة شراكة وتعاون، إنها سبل تغنينا عن جهود البحث وراء خصوصياتهم، نركز على جهود وإجراءات تساهم في الانفتاح عليهم وتحفيزهم لكي يدلوا عن طيب خاطر بكل تعاملاتهم والاعتراف بما بذمتهم والإسراع في أداء واجباتهم الضريبية، بدل التبجح بالإعلان عن خطط وإجراءات لمزيد من المواجهة والتشاحن، لأن الفعل يولد رد الفعل؛ والمديرية بهذا الشكل ستجعل الملزم مستعد لهاته الإجراءات العدائية والبحث في سبل جديدة لتكريس التهرب والتملص الضريبيين.

 

وهذا تاريخنا الجبائي منذ القدم، إذ بالغوص فيه نخلص الى أن العلاقة بين الجباية والمواطن كانت هي علاقة مواجهة وتعارض وعداء، والواحد فيهما لا يتقبل الآخر؛ الإدارة تنطلق من أن الملزم يمارس الغش والكذب والتهرب من أداء واجبه، والملزم بدوره يرى الأمر بأنه اعتداء وتجاوز وسرقة وإكراه بسلاح السلطة.

 

إن الإصلاح الجبائي ينبني على أمور من داخل الإدارة نفسها، وليس من خارجها. فالمواطنون أغلبهم ممن هم ملزمون أصلا بأداء الضريبة، ملتزمون بواجبهم إلا ما يتعلق بالتعسف والشطط والمبالغة في تحديد هذا الواجب الذي يقتضي منهم مواجهته بمختلف السلوكات السلبية. إن الإصلاح الحقيقي يجب أن ينصب على تغيير العقليات والمنظور لمسألة الضريبة كمادة أساسية لتحريك النمو، وأيضا إلى نوعية العلاقة التي يجب لزاما أن تتحول من علاقة مواجهة الى علاقة تعاون، كما أن الإصلاح يجب أن ينصب حتى على نوعية المسؤولين... فبعضهم لا يتوفر على كفاءة التدبير العقلاني للمصلحة بمفهوم علم الإدارة وليس بمفهوم القانون الإداري أو مفهوم القانون الضريبي. أنا أتساءل لماذا المديرية العامة للضرائب تصر على تعيين أطر من داخلها فقط لكفاءتهم الضريبية؟! في حين الكفاءة الحقيقية هي الكفاءة المالية والتدبيرية، وهاتان الكفاءتان لا يمكن توفرهما بحكم المهنة في المسؤول من داخل المديرية، بل يجب الانفتاح على المفتشية العامة للمالية. فهذه الأخيرة تنتج لنا جودة لا يمكن تخيلها من الكفاءات، لهم كامل الاستعداد لتقلد مناصب المسؤولية بالمديرية على غرار باقي المديريات في الوزارة، ذلك أن مفتشي المالية لهم تكوين جامد على مستوى التفاوض والعلاقات الإنسانية وتدبير الأزمات المطروحة بحسب الاختصاص على مستوى المصلحة، وأيضا توقع المخاطر وإعطاء التقدير الكافي لعواقب أمورها.

 

وإنني من هذا المنبر أؤكد على ضرورة التعاون بين المديرية العامة للضرائب وجهاز المفتشية العامة للمالية بخصوص تعيين بعض أطرها بمناصب المسؤولية بالمديرية، إذا كنا نرغب في إعادة التوهج والفعالية في النظام الضريبي... فالإصلاح لن يكون بمسلك التجسس ونحن في دولة القانون والحقوق كما يشاع، ولكن الإصلاح يكون بمسلك البحث عن سبل تحسين العلاقة بين الإدارة والملزمين وبتنمية الكفاءات واختيار النخب على صعيد الوزارة لتقلد مناصب المسؤولية بالمديرية، والأهم تغيير العقلية والتخلص من النزعة العدائية في التعامل مع فئة المفروض أنها تساهم في استمرار الدولة وتحريك الاقتصاد والرفع من مستوى التنمية، ومحاولة التعاطي مع المادة الضريبية من منطلق الشراكة والتعاون والانفتاح الحقيقيين بدل الشعارات والمصطلحات الإنشائية... غير هاته التدابير؛ أؤكد للجميع أنه لن تكون عندنا جباية فعالة، ولن نصل إلى النتيجة المتوخاة منها بتحقيق الاستقرار والتنمية والأمن والازدهار والتقدم".