الجمعة 19 إبريل 2024
مجتمع

محمد التامك.. من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى

محمد التامك.. من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى الراحل محمد التامك

منذ حوالي 15 سنة، كانت أجواء عيد الأضحى على الأبواب، حين قمتُ بجولة صحفية عبر الطريق للأقاليم الصحراوية من الدار البيضاء إلى الداخلة وأوسرد، مرورا بگليميم وطانطان والعيون والسمارة وبوجدور، ولا أدري لماذا كان علي أن تكون محطة زيارتي لأسا الزاك مرتين في الذهاب والإياب، ربما لمركزية الأحداث التي عرفتها الأقاليم الصحراوية في منتصف الألفين وكيف كانت أسا مرتبطة بالنضال الشعبي وامتداده في باقي الأقاليم.

 

ورغم زياراتي السابقة لعدد من الأقاليم الصحراوية بدءا من سنة 2002، فقد كانت مدينة آسا الأيتوسية لها وقع خاص في خاطري، فالطريق لها في ذلك الزمن من گليميم، يشعرك بأنك بصدد زيارة خاصة لإقليم يعد القاعدة الخلفية عسكريا للمغرب، إذ لا يكاد يخلو بيت من بيوتها من وجود شهيد حرب أو أسير معركة؛ بالمقابل كانت آسا قاعدة خلفية فيما بعد لجبهة البوليساريو، ومنطلق نضال أصحاب "لا بديل لا بديل".

 

استرجعت هذا التاريخ وأنا أتلقى خبرا مفجعا، مساء يوم الثلاثاء 6 غشت 2019، لرحيل أول صديق استقبلني ببيته واحتضنتني أسرته وأكرمتني قبيلته، هو المرحوم بإذن الله تعالى محمد التامك ولد سليمة ولد حمادي الأيتوسي.

 

مباشرة بعد حاجز الدرك الملكي الثابت بمدخل مدينة أسا، وبعض المؤسسات العسكرية والإقليمية، وعلى يمين المدخل دخلت بيت التامك، هذا الاسم الذي تفرقت السبل بحامليه، من الموظفين السامين بالمغرب إلى قيادات جبهة البوليساريو في مخيمات تندوف والصحراء.

 

بحرارة وكرم استقبلني محمد التامك، ظهر يوم حار سنة 2005، وبقدر فتحه لبيته في وجهي، رغم عدم سابق معرفة، فقد كان قلبه أوسع من بيته، تحدثنا كثيرا وطويلا على انفراد قبل أن يلتحق بِنَا شباب صحراوي مناضل منهم المعطلون والمقاولون وأبناء الشهداء وضحايا الألغام، كما التحق بِنَا شيوخ أفنوا زهرة شبابهم في الحرب منهم من قضى ومنهم من ينتظر، وأيضا نساء وفتيات، ليتحول بيت محمد التامك، إلى ما يشبه فضاء لاستقبال المظالم وبث الشكاوي، رغم معرفتي باللغة الحسانية التي تلقيت دروسها الأولى من خلال احتكاكي بالأصدقاء والصديقات في كلميم والعيون والداخلة، فإن "حسانية أهل أيتوسى" كانت مختلفة ومحافظة على نطقها، مادام أن آسا لم تكن محطة عبور بل نهاية سير، جعل لسان ساكنتها محافظا على حسانيته.

 

وبين الحين والآخر كان صديقي الراحل ولد سليمة ولد حمادي، يقوم "بالترجمة الفورية"، لأزيد من 6 ساعات كنت ألقي السمع وأنا أدون معطيات ومطالب كل فئة اجتماعية، وهي الفترة الزمنية التي استغرقها إنجاز أتاي الصحراوي بجيماته الثلاث، اجماعة والجر والجمر.

 

أحس صديقي ومضيفي محمد التامك، بتعبي وأسر لي خافتا، "غير اصبر، لأنه لو أنصت المسؤولون لوفد الشباب الصحراوي في السبعينات، ما كان لمشكل الصحراء أن يندلع"، شعرت بثقل المسؤولية التي على عاتقي، واستجمعت قواي الاستمرار في العمل، ومع آذان مغرب ذلك اليوم انفض الجمع، وتلقيت أكثر من دعوة لتناول وجبة العشاء، غير أني فوضت لمحمد التامك القرار الأخير، لأني ضيفه.

 

جولة قصيرة في المدينة، تحت أنظار ومراقبة من بعيد لعناصر أمنية بلباس مدني، كانت كافية للوقوف على صدقية مطالب الفئات الاجتماعية التي أنصت لها، زيارة مسائية قادتني رفقة الصديق محمد التامك لعدد من المشاريع التي كانت متعثرة وشكلت سببا في انتفاضة ساكنة أسا حيث المطلب الرئيسي هو الكرامة، أمام واقع عناوينه الهشاشة والإقصاء والتهميش.

 

شكل موضوع ضحايا الألغام، الذي كنت من بين أوائل الصحافيين الذين اشتغلوا عليه ميدانيا، أمرا مغريا بالمتابعة الإعلامية، والفضل الكبير كان لصديقي محمد التامك، "تبغي تمشي تشوف الألغام بعينيك؟"، فاجأني سؤاله، ونحن بصدد الانتهاء من وجبة العشاء الثالثة تلك الليلة، فأجبته على الفور "نعم، أكون لك شاكرا"، ليستطرد بالقول أنه يتعذر عليه مرافقتي لكنه يضمن لي رفقة طيبة وثقة سيكونون معي، وهي الزيارة التاريخية التي قادتني في ليلة اكتمل بدرها إلى جماعة "البيرات"، التي حصدت أكثر الأرواح البشرية المدنية والعسكرية وكذا الإبل، بفعل احتضانها لحقل ألغام مصنف دوليا موروث من الحرب بين المغرب من جهة، وجبهة البوليساريو مدعومة بالجيش الجزائري. وتلك رحلة موثقة بالقلم والصورة ضمن إحدى أعداد جريدة "البيضاوي"، أو البيظاني كما كان يحلو لأهل الصحراء تسميتها قبل أن تتحول لاسم "الوطن الآن".

 

ورغم انتهاء مهمتي الإعلامية، فإني كنت، وما زلت، أحرص أشد الحرص على جعل العلاقات مع كل الذين التقيتهم وألتقيهم في مساري المهني أن تكون إنسانية بكل ما للكلمة من معنى... وهكذا استمر حبل التواصل مع الصديق أبو بشار، وأسرته، ولم ينقطع رغم غيبة كانت قسرية له، وكان عدد من أبناء عمومته ينقلون لي أخباره، إلى أن التقيته مؤخرا بمدينة الداخلة بمناسبة عرس أحد أبناء عمومته، وكان لعامل الزمن أثر بالغ على بنيته الجسمية، عانقني بحرارة واسترجعنا أقوى لحظات عشناها من عقد ونصف، مبديا أسفه لعدم وجوده في أسا خلال زياراتي اللاحقة لها، وافترقنا على أساس موعد قريب، مع استمرار الاتصالات الهاتفية بيننا في كل مناسبة وحين..

 

كان اللقاء في الدنيا مع المرحوم بإذنه عز وجل بعد غيبة صغرى وستكون يقينا بعد غيبة كبرى في الآخرة.

 

رحمك الله صديقي محمد التامك ولد سليمة ولد حمادي، وغفر الله لنا ولَك، وكما رثاك صديقنا المشترك مصطفى عبد الدايم، "لن أودعك اخي محمد التامك، فمثلك يظل في القلب والعقل الى الأبد وإن غاب عنا بالجسد".