الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد حمزة: القصص المحزنة في تعذيب العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي

محمد حمزة: القصص المحزنة في تعذيب العلماء والمفكرين في العالم الإسلامي محمد حمزة

مثل هذه القصص المحزنة التي تبين الصراع بين العلم والفهم الديني لا ينتهي عددها، وهي ليست مقصورة على دين واحد أو زمان واحد، والعالم الإسلامي لا يخلو من مثل هذه القصص في الماضي والحاضر.

 

قصص تعذيب العلماء والمفكرين وإعدامهم لا ينكرها أحد. فابن المقفع الذي جمع بين لغة العرب وصناعة الفرس وحكمة اليونانيين ومؤلف كتاب "كليلة ودمنة"، اتهم بالكفر وقطعت أطرافه وفصلت رأسه، وألقي بباقي جسده في النار لممارسته الفكر النقدي في تدبير شؤون الرعية. نفس المصير لقيه المتصوف الحلاج بعد اتهامه بالكفر. ضرب الحلاج بالسياط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، وألقي ما بقي من تراب جثته في نهر دجلة. المتصوف السهروردي في عصر صلاح الدين الأيوبي تم قتله بنفس الطريقة التي قتل بها الحلاج. أما الإمام ابن حنبل فقام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. والكندي فيلسوف العرب جرد من ملابسه، وهو في الستين، وجلد ستين جلدة في ميدان عام وسط تهليل العامة. والرازي ضرب على رأسه بكتبه حتى فقد البصر، وعندما طلب أحد تلاميذه علاجه رفض، وقال لقد نظرت إلى الدنيا حتى مللت.

 

ولم ينج ابن سينا وابن رشد وابن خلدون من الاتهام بالكفر. ابن رشد حرقت كتبه، واتهم في إيمانه بناء على تأثير الفقهاء المتزمتين بإصدار مراسيم التحريم في حق الفلسفة. انطلقت محنة ابن رشد ومحاكمته، فكانت تهمته الكفر والإلحاد والمروق عن الدين، وحكم عليه بالنفي إلى قرية لا يسكنها غير اليهود، في إيماءة من جلاديه إلى أنه ليس من المسلمين، أي أن التشنيع به قد بلغ منتهاه وصولا إلى تصويره في ثوب من لا علاقة له بالملة. فأصوله اليهودية هي التي جعلته يمرق عن الدين الإسلامي، وهذا تقليد يخترق الحضارة العربية، فعندما يتعلق الحال بتكفير هذا المفكر أو ذاك، فإنه كثيرا ما ينسب إلى اليهود أو النصارى أو المجوس؛ وقد برع فيه رجال الدين المحافظون على مر الأزمنة.

 

خرج منشور للفقهاء المحافظون يعتبر كتب ابن رشد هي سبب البلاء، فهي كتب حسب الفقهاء ضالة كافرة: "فلما أراد الله فضيحة عما يتهم وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال". إنها "كتب مزبلة للأقدام... أسياف أهل الصليب دونها مفلولة وأصحابها منافقون لا يعكس ظاهرهم باطنهم"؛ فإنهم: "يوافقون الأمة في ظاهرهم و زيهم و لسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم و بهتانهم"؛ و"المبرر لنفيهم إنما هو زندقتهم وإلحادهم" (عبد المالك المراكشي "البديل والتكملة"، السفر السادس) .

 

بعد نكبة ابن رشد ساد جو مشحون كانت سمته إطلاق حملة شاملة لاستئصال الفلسفة، وكان المنصور قد قصد ألا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده... وأباد كثيرا منها بإحراقها بالنار، وشدد في ألا يبقى أحد يشتغل بشيء منها؛ وأنه متى وجد أحد ينظر في هذا العلم أو وجد عنده شيء من الكتب المصنفة فيه، فإنه يلحقه ضرر عظيم.

 

كانت الحملة ضد ابن الوليد ممرورة بمباركة دينية. فالقيمون عليها رجال دين وجدوا ضالتهم أخيرا في قرار السلطة السياسية تحريم الفلسفة، وكان لهذا المناخ المشوب بالإرهاب الفكري تأثيره الكبير على مسيرة الفلسفة في الأندلس. محنة ابن الوليد وراءها أيضا الإحساس بالحرج من قبل مدينته تجاه الأفكار الجريئة التي ساقها. فقد واجه مدينته بنقد صارم لمظاهر الفساد السائد فيها؛ كما واجهته تلك المدينة مواجهة صارمة فنفته بعيدا عنها. الآراء التي عبر عنها ابن رشد أحدثت ردود فعل في مدينة أحكم رجال الدين المتزمتون قبضتهم عليه، كما الحال في محنة غليلي مع الكنيسة، وأضحي السلطان السياسي فيها رهن فتاوى التحريم التي يصدرونها، والتي كانت العقلانية العربية أبرز ضحاياها.

 

عندما نتأمل حال العقلانية العربية أو الفلسفة في المنطقة العربية اليوم، يجوز لنا القول: ما أشبه الليلة بالبارحة في العصر الحديث.