الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الفرحان : الملك يتألّم

أحمد الفرحان : الملك يتألّم أحمد الفرحان

يتساءل الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هيدجر في لقاءات "ثور"Les séminaires du thor (1966-1968-1969) عن المعنى الذي نقصده باستعمالنا كلمة: "جسدي"، فهل المقصود به هذا الجسم الذي حدوده الجلد والذي به نقيس مسافتنا بالأشياء حولنا، كأن نقول:

"كان القمر ليلة البارحة أدنى منِّي أو من مدينة اللّوفر" ؟ أم المقصود به هذا الجسم-الحياة الذي حدوده أعقد وأصعب على التحديد؛ فهو بالتأكيد لا يحدّ بالعالم الممتد المادي، وأيضا ليس العالم المحيط الذي نستعمله ونتبادل معه انشغالاتنا اليومية الحامل لدلالات تتجاوز حدود التماس الحسي.

يستعصي فهم كلمة "جسدي"، فالطبيب مثلا، عندما تقول له يؤلمني "جسدي" يفهم أن جسمك مريض يتطلّب علاجا، إنه يعاين اختلالات الوظائف الآلية للجسم المادي. وعندما تقول في سياق اجتماعي أو عاطفي "جسدي يقشعر" بسماع معاناتك، و"جسدي يتألم" بفراقك، أو عندما تميز بائعة الهوى بين جسد للبيع وجسد للعبادة. بالتأكيد الجسد الأول هو هذا اللحم الذي يحتويه الجلد الباعث على أحاسيس تثير الوظيفة البيولوجية الجنسية، والجسد الثاني هو هذا الجسد الذي يسكن اللغة الإيمانية.

يذهب هيدجر إلى التمييز بين " الجسد" وبين "الجسم"، (Leib و(Körper) ، على سبيل التّمثيل لا الحصر، حين أضع نفسي في ميزان قياس الأوزان الجسميّة فإنّني لا أقيس وزن الجسد العاطفي أو الاجتماعي، ولكنني أقيس وزن الجسم المادي فقط.

وفي السياق السياسي، عندما يأتي على لسان الكائن السياسي قائلا: "إني أتألم من أجلكم"، فأي جسم يتألّم؟

كان إرنست كانتوروفيتش Ernst Kantorowicz المختص بدراسة تاريخ العصور الوسطى، قد نشر كتابا في سنة 1957 بعنوان: " The King’s Two Bodie "، " ثنائية الجسم الملكي"، كشف فيها عن تصوّر اللاهوت السياسي للملكية. والسؤال هو: كيف تستمر الملكية رغم موت جسم الملك؟

فميّز بين نوعين من الجسم: الجسم الطبيعي والجسم السياسي، الأوّل يمتلك صفات جسمية يتألّم ويعاني ويموت ويفنى كما يموت كل البشر، والثاني، أي الجسم السياسي، هو جسد روحي خالد يتخطّى العالم المادي ويحمل دلالة رمزية تنتجها أدبيات الحق الإلهي في الحكم. أي: جسم تبدعه اللغة اللاهوتية عن "قداسة شخص الملك"، لأنه الحافظ لسنن الله (=شريعته) في تدبير العمران والوصي على خَلقه. وهذا التقسيم هو الذي ضمن استمرارية الملكية في العصور الوسطى والعصر الحديث أيضا. والجسد السياسي الرمزي لا يمكن رؤيته لأنّه مجموع القوانين والشرائع والأعراف والتنظيمات التي تدير الحكم وشؤون الشعب، ولهذا فأعطاب الجسم الملكي الطبيعي من أمراض وشيخوخة وغيرها لا يمكن أن تعرقل السير العام للمؤسسات.

والعلاقة بين الجسمين علاقة جدلية تقوم على صراع داخلي بين جسم الإنسان الطبيعي الذي تحكمه الطبيعة البشرية الهشة التي "تتألّم" فعلا وبين الجسد السياسي الذي تحكمه النظم والتشريعات ويتجاوز هشاشة الطبيعة البشرية، و "لا يتألمّ"، بل يتوسّع ويزداد قوّة وصلابة. ومن وجهة نظري، فإن الملكيات التي لم تحسم في طبيعة الصراع بين الجسمين، الجسم الطبيعي الذي "يتألم" فعلا، وبين الجسد السياسي الذي يتجاوز آلام الجسم الطبيعي بإصلاحات تشريعية ومؤسساتية جريئة وشجاعة تحفظ سلامته الصحية الخالدة، تترك مساحة الصراع مفتوحة للمجهول.

ـ الأستاذ الجامعي أحمد الفرحان أستاذ بشعبة الفلسفة كلية الآداب و العلوم الإنسانية ابن طفيل القنيطرة