في كل تظاهرة رياضية كروية، توجه البوصلة نحو المنتخب الوطني الذي يبدو كشيخ الزاوية الذي يقبل عليه المريدون من كل صوب واتجاه، ليس فقط بحثا عن "بركات" الكرة الساحرة وما تحمله من متعة وحماقة وهستيريا وهيام وجنون، ولكن أيضا من أجل التعبير العفوي والتلقائي عما يجمعنا من مشاعر الوطنية التي قد تغيب وقد تحتشم وقد تتوارى عن الأنظار، في سياقات ما يعكر صفونا من اختلافات وصراعات خفية ومعلنة، وأنانية مفرطة وحمق وتطاحن وإقصاء.. في كل مناسبة كروية قارية أو عالمية، يجذبنا سحر المستديرة، ونتخلى بانسياب عما يرقد في ذواتنا من يأس وإحباط وانسداد أفق، ونجلس جنبا إلى جنب في الملاعب والمقاهي والبيوتات، نتفاعل مع كل حركة أو تمريرة دقيقة أو فرصة ضائعة أو هدف، يفجر ما نتقاسمه من مواطنة راقدة في الأعمـــاق، تقوي أحاسيس الانتماء إلى وطن نتقاسم فيه أريج التاريخ ونسائم الجغرافيا.. أمام الكرة الساحرة، نكون أحيانا كالحمقى، نفرح كلما اهتزت شباك الخصوم، ونشجع بحماسة وهستيريا، ونحزن ونـتألم، كلما كانت الهزات والكبوات والإخفاقات ..
في كأس العالم الأخيرة، كانت البسمة عابرة عبور السحاب، وتركت مكانها للدمعة والحسرة، بعد الإقصاء المر من الدور الأول أمام كبار البرتغال وإسبانيا، في مشاركة احترم فيها المنطق، وكان العزاء، أن نعلق الكبوة والهزيمة على "الحكم" وعلى "الفار" الذي وقف سدا منيعا أمام أحلامنا المشروعة، وفرض علينا العودة إلى الديار بخفي حنين، وفي جعبتنا مشاهد من مباريات، لم يشفع للأسود الزئير فيها ولا الشهيق ولا الزفير، وكأن كل أحلامنا وآمالنا تحققت في مجرد المشاركة في نهائيات كأس العالم بعد سنوات طويلة من الغياب، في تظاهرة عالمية، لا مكان فيها للصغار الذين أقصى ما يفعلونه، أنهم يلعبون دور "الكومبارس" في كأس عالمية يتنافس عليها الكبـار ..
بعد المونديال العالمي، حل المونديال الإفريقي ببلاد الفراعنة، وعادت أسود الأطلس إلى الواجهة، بعد أن حققت مسارا إقصائيا ناجحا، وعاد معها عشاق ومتيممو الكرة الساحرة ليتقاسموا بسط المتعة والمحبة في الملاعب المصرية وخلف الشاشات، حاملين آمالا مشروعة في الوصول إلى مباراة النهاية بشكل يسمح بانتزاع لقب إفريقي ثان مازال مستعصيا منذ سبعينيات القرن الماضي؛ وفي المقابلة الأولى أمام "ناميبيا" كانت المعاناة سيــدة الموقف أمام خصم ناميبي سد كل الأبواب والمنافذ بشكل لم تنفع معه بركة "الثعلب" في إيجاد الوصفة الساحرة القادرة على هز الشباك، ومن حسن حظنا، حققنا نصرا "مسروقا" في آخر أنفاس المقابلة، بنيران صديقة، ناب عنا فيها لاعب ناميبي في التسجيل ضد مرماه، مانحا إيانا ثلاث نقط، أنقذتنا من تعادل مؤكد بطعم الهزيمـة؛ وفي المقابلة الثانية، أمكن تسجيل هدف يتيم، جاء بمجهود شخصي للمحارب "نورالدين امرابط" الذي مرر كرة على طابق من ذهب للاعب "يوسف النصيري" الذي نجح في هز الشباك؛ أما المقابلة الثالثة أمام "جنوب إفريقيا" فقد أنقدتنا بركة "مبارك بوصوفة" الذي أهدانا نصرا في آخر أنفاس المباراة.
ثلاث مباريات بثلاثة انتصارات، منحت الريادة للأسود، الذين عانوا من عقم هجومي واضح، ومع ذلك، كبر الحلم وارتفع منسوب التوقعات في تجاوز خصم "صغير" اسمه "بنيـن" اعتقده الكثير قنطرة عبور صغيرة نحو ربــع النهايـة.. لكن أتت الرياح بما لا تشتهي سفن المحبين والعاشقين، وعلى عكس كل التوقعات، تلقت شباك المنتخب الوطني هدفا نزل كقطعة ثلج باردة، أربكت الحسابات ولخبطت الأوراق، وعشنا جميعا لحظات رعب بحثا عن هــدف تعادل كان يبدو كالسراب كلما اقتربت عقارب الساعة من الدقيقة التسعين، في لحظات حرجة، حضر فيها العقم الهجومي وغابت فيها بركة "الثعلب".
ومن حسن الحظ، حضرت مرة أخرى البركة التي أتت من أقدام "الشيخ مبارك" الذي استغل ارتباك مدافع الخصم، وانتزع كرة من ذهب مررها للقناص "النصيري" الذي ركن الكرة في الشباك وأعاد المباراة إلى نقطة الصفر، وأعاد معها "الآمال" في الانتصار، أمام منتخب صغير بدون تاريخ، وفي الوقت الذي كان الجميع ينتظر إعلان الحكم عن نهاية المباراة، حلت بركة الكرة السمراء، وأعلن الحكم عن ضربة جزاء، بدت وقتها كرصاصة الرحمة التي من شأنها أن تخلصنا جميعا من مباراة "مرعبة"، وكل الأنظار اتجهت إلى عيون وأقدام "حكيم زياش" الذي تموقع في لحظة حرجة جدا، تحمل فيها "أحلام" و"آمال" ملايين من المشاهدين المغاربة عبر العالم، لكن "البركة" تحولت بقدرة قادر إلى "نكسة" بعدما اصطدمت كرة "زياش" بالقائم، الذي أبقى على أحلام دولة صغيرة اسمها "بنيـن"؛ ومع ذلك، فقد ظلت الأحلام قائمة في هز الشباك في الشوطين الإضافيين، لكن كل شيء تبخر في لمحة بصر، وبدا واضحا أن ضربة الجزاء الضائعة، كانت تعني وقتها، أن الحظ سيكون لامحال بجانب الفريق الخصم، الذي ضحى وناضل بكل إمكانياته المتاحة، واستدرج الأسود إلى الضربات الترجيحية، التي اختزلت حكاية العقم وقصة الشرود والارتباك والحظ التعيس ..
نكسة "بنين"، هي "مرآة" عاكسة لتراجع الرياضة الوطنية وفي مقدمتها ألعاب القوى، و"امتداد" لتاريخ حافل من النكسات والكبوات.. وبلغة الأرقام والمعطيات، فلا مناص من القول، أن أقصى ما حققته الكرة المغربية، هو كأس إفريقية "يتيمة" تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وكأس إفريقية للشباب وكأس إفريقية للمنتخبات المحلية (الشان)، وحتى الفرق الوطنية، يبقى حضورها في المنافسات الإفريقية حضورا باهتا، ماعدا بعض الفلتات التي تحدث بين الفينة والأخرى كما حدث مع المغرب الفاسي والفتح الرباطي والوداد والرجاء البيضاويين، دون إغفال نهضة بركان وحسنية أكادير، إلى درجة أن المتاعب والهزائم، أصبحت تحل علينا تباعا في كل مناسبة رياضية.. وبعد كل هزيمة أو كبوة، تدق طبول الانتقاد والإدانة والاحتجاج، ويخوض البعض في نقاشات ذات طابع تقني وتكتيكي، ويجازف البعض في النبش في اختيارات المتدرب ومنهجية تعامله مع المباريات، ويغامر البعض في التشكيك في وطنية بعض اللاعبين القادمين من أوروبا، لكن سرعان ما تخمد النيران كما تخمد العواصف الهوجاء، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، وننشغل ببطولة أبعد ما يكون من الاحتراف، في انتظار إقصائيات كأس إفريقيا أو كأس العالم، لنعيش مرة أخرى أحاسيس الهزيمة والخيبات ..
ما حدث هو أمر متوقع، بالنظر إلى سنن كرة القدم التي تتأسس على ثالوث "الانتصار" أو "التعادل" أو "الهزيمة"، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نختزل ما وقع من نكسة في اللاعب "حكيم زياش" الذي أضاع ضربة جزاء حاسمة يتحكم فيها الحظ بشكل كبير، ولا يمكن البتة، التشكيك في وطنية اللاعبين الذين قدموا ما في جعبتهم.. فالوطنية إحساس يجري في الدماء وارتباط وجداني بوطن يسع كل أبنائه في الداخل كما في الخارج، وليس لأي أحد أو جهة، التشكيك في مواطنة أبناء ولدوا بالمهجر، ولكن لم يتنكروا لوطن الآباء والأجداد، وفضلوا الدفاع عن ألوان الفريق الوطني تلبية لنداء الوطن.. والعبرة ليس فيمن قدم من الخارج أو من الداخل، ولكن فيمن أخلص للوطن ودافع عن راية الوطن بتضحية ونكران للذات. ما حدث هو هزيمة مذلة أمام منتخب صغير كان أوفر حظا، أخرجت المنتخب المغربي من الباب الخلفي، ولحق به المنتخب المصري الذي ذاق مرارة الإقصاء بعد هزيمة غير متوقعة أمام منتخب جنوب إفريقيا، لكن بالقدر ما نؤمن بقدر الهزيمة في منطق كرة القدم، بالقدر ما يفرض واقع الحال استخلاص الدروس والعبر، للحيلولة مرة أخرى دون صناعة واقع ينتج الهزائم والكبوات والانتكاسات..
ما حدث يسائل أولا، الجهة الوصية على كرة القدم المغربية التي لابد أن تتحمل مسؤولياتها كاملة فيما جـرى. وفي هذا الصدد، لا مناص من دق جرس الإنذار مبكرا، لأن أزمة الكرة الوطنية عميقة، ولا يمكن حجبها بتغيير المدرب أو تسريح لاعبين، أو استقدام لاعبين جدد أو الاستعانة بلاعبين محليين، لإسكات الأصوات المنتقدة والمحتجة والمعارضة للسياسة الكروية القائمة. ما حدث يسائل منظومة كروية بأكملها، أبعد ما يكون من الاحتراف، وحتى الأندية الكبرى التي يعول عليها في إحداث الطفرة الكروية، تعاني من المشاكل كما هو الحال بالنسبة للرجاء البيضاوي، وباستثناء أربعة أو خمسة فرق على أقصى تقدير، كل الفرق الوطنية تعاني من مشاكل تسييرية ومالية ومشاكل في التكوين والحكامة الجيدة، وبعضها يفتقد إلى ملاعب وبنيات رياضية لائقة خاصة فيما يتعلق بمراكز أو أكاديميات التكوين، والنتيجة بطولة عالقة بين الهواية والاحتراف، فلا نحن تجاوزنا الهواية، ولا نحن حققنا الاحتراف بكل مفرداته.. ومن يراهن بقوة على اللاعب المغربي، فلا يمكن البتة صناعة لاعب مغربي تنافسي، في غياب منظومة تكوينية للفرق تهتم بجميع الفئات العمرية. وهنا لا نستغرب محدودية المنتخبات أقل من 21 سنة، التي تبدو صغيرة أمام منتخبات القارة السمراء، ولا نستغرب أيضا، أن تصنع البطولة الوطنية، لاعبين لا يجدون أمامهم إلا البطولات الخليجية، بمعنى أن المنتوج الكروي، لم يعد قادرا على صناعة نجوم كبار قادرين على الاحتراف بكبريات البطولات العالمية .
الإصلاح يا سادة، لا يبدأ من المدرب ولا باستقطاب اللاعبين، ولا بسياسة "الماكياج" التي تخفي الندوب والجروح، وتستثمر النجاحات العابرة التي تبدو كالفلتات في زمن الخيبات، الإصلاح الحقيقي يبدأ من القواعد، بالرهان على المراكز والمدارس والأكاديميات في صناعة لاعب الغد وفق أحدث الطرائق البيداغوجية والتقنية والتكتيكية وفق مقاربات احترافية لامجال فيها للعشوائية أو اللخبطة أو التجريب أو الارتباك، في أندية رياضية مهيكلة تسير بروح الفريق في إطار مناخ الحكامة الرشيدة. وبهذه الفلسفة، يمكن للأندية أن توسع من قاعدة الممارسين في جميع الفئات العمرية، بشكل يتيح الإمكانية لاختيار الأفضل والأجود لحمل القميص الوطني. أما مغاربة الخارج، فهم مغاربة ولا يمكن التعامل معهم بأي نوع من الدونية أو التوجس، لأن الوطن يحتضن جميع أبنائه في الداخل كما في الخارج، والمنتخب الوطني يعكس الوطن، ولا يمكن طرق بابه، إلا للأجود والأحسن والأخلص.. وكل توجه يسير في اتجاه اللاعب المحلي، فهو توجه غير سليم، وفيه إقصاء لمغاربة الخارج أو التقليل من شأنهم.. فباب المنتخب لا يمكن فتحه، إلا أمام من بإمكانه تقديم الإضافة، بعيدا عن مفردات "الموالاة" أو "المحاباة" أو "الإقصاء".
للأسف ما حدث، سيكون نهاية مأساوية لعدد من اللاعبين من أمثال "بوصوفة" و"الأحمدي" و"بنعطية" و"سايس"، وقد يشكل بداية جديدة لجيل جديد من اللاعبين الواعدين، وقبل هذا وذاك، سيعري سوءة كرة القدم المغربية التي ما أحوجها اليوم إلى نفس جديد، ولم لا التفكير في تنظيم يوم دراسي أو مناظرة وطنية حول "كرة القدم: الواقع والآفاق" بحضور مدربين وطنيين ولاعبين دوليين وتقنيين وخبراء في التسيير والحكامة وإعلاميين، من أجل صياغة خلاصات وتوصيات من شأنها أن تفوز إجراءات وتدابير عملية، قادرة على انتشال الكرة المغربية من مستنقع الهواية ووضعها في سكة الاحتراف الحقيقي، وأي اختزال للأزمة في المدرب أو في اللاعب، لن يكون إلا عبثا وهدرا للمال ولزمن الإصلاح.. فكلنا مغاربة، ومن أخطأ لابد أن يعترف بالخطأ، ويترك الفرصة لمن يحمل المشعل في إطار "ربط المسؤوليات بالمحاسبة"...
وحتى لا ندع الفرصة تمر، لا مناص من التنويه بما أقدم عليه بعض لاعبي المنتخب الوطني الذين تفاعلوا وتضامنوا مع أطفال "بويبلان" وزرعوا البسمة على محياهم، بعدما مكنوهم من أقمصة رياضية وشاشات تلفزية لمتابعة مباريات كأس إفريقيا، في خطوة مواطنة تستحق كل الثناء والتقدير، دون إغفال، التقارب التلقائي بين الجماهير المغربية والجزائرية التي رفعت شعار "خاوة.. خاوة" في رسالة واضحة المعالم، مفادها أن السياسة، وإن أقفلت الحدود، فلن تقفل الجسور الوجدانية التي تربط الشعبين المغربي والجزائري.
ونختم المقال، لنتأسف على إقصاء ثاني منتخب عربي من المنافسات (المنتخب المصري)، وهو إقصاء مر سيحدث ارتدادات في الكرة المصرية كما الحال بالنسبة للكرة المغربية، ومهما كان عمق الهزيمة ودرجة النكسة، فكرة القدم تبقى متعة ومنافسة شريفة، وتقارب وتلاقي بين الأمم والشعوب، وبروح رياضية، نحيي أسود الأطلس وفي مقدمتهم "زياش" الذي يبقى "مبدعا" و"فنانا"، ولا يمكن إلا دعمه ومساندته من أجل الوطن.. ومن اعتزل أو على وشك الاعتزال، نقول له، شكرا لما قدمت من أجل الوطن.. وكل سنة وكل شهر وكل يوم وكل لحظة والوطن سليما معافا.. وللأشقاء المصريين، نقول بأسف: "عزاؤنا وعزاؤكم واحد".