الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: دسترة النقاش حول الثقافة وتأصيل الطابع الثقافي للدستور.. القوة الثقافية للدستور 2/1

عبد الحميد جماهري: دسترة النقاش حول الثقافة وتأصيل الطابع الثقافي للدستور.. القوة الثقافية للدستور 2/1 عبد الحميد جماهري

 لم تدرج كلمة "ثقافة" في النص الدستوري المغربي، إلا بعد نصف قرن من الاستقلال، كما أن الدسترة المفكَّر فيها والناتجة عن حقيقة اجتماعية وخيار استراتيجي للدولة، للمسألة الثقافية، مع تقوية الهيكلة الدستورية للمسألة الثقافية، لم تتأتَّ سوى بعد نصف قرن من الحياة الحرة للمغرب.

فكل الدساتير السابقة، لم ترد فيها كلمة «ثقافة» في النص، فبالأحرى ورودها كتوجه قادر على تقوية النص الدستوري وتوسيع رهاناته..

بالنسبة للقضية اليوم، فإن الدستور الذي صوتنا عليه جميعا، يجعل من الثقافة اسمنتا حضاريا يُمنِّع قدرات البلاد، سواء عبر النصوص المهيكلة لذات الدولة أو في ما يتعلق بالعلاقة مع القيم الكونية..

 

****

 

توفق البرلمان المغربي في الإفلات من الاستحالة اللغوية، التي كانت تهدد النقاش العام حول مواضيعَ ذات صلة بالهوية، والتعدد اللغوي ومؤسسات الحكامة الثقافية، عندما صوت بالإجماع الاثنين 10 يونيو 2019 على مشروعي قانونين تنظيميين: يتعلق الأول بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في الإدارة والحياة المهنية، والثاني بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية..

ومن المتوقع أن يدخل النواب المغاربة، ومن ورائهم كافة الطيف الثقافي والرمزي، في نقاش قوي حول مجلس المناصفة المنصوص عليه كذلك في الدستور، فضلا عن مشروع القانون -الإطار المنظم للتربية والتكوين، لا سيما منه إشكالية لغات التدريس بالمدارس والمعاهد المغربية.(انظر العربي الجديد: نقاش الهوية والمعادلة السياسية في المغرب-الحراك اللغوي في المغرب).

وبغض النظر عن التفاصيل، فإننا أمام بناء مفهوم دستوري متعدد الدلالات:

1- نحن أمام تجربة دالة على القوة الثقافية للدستور المغربي، وفيها، كما يؤمن الأنكلوساكسونيون، يكون الدستور أكبر من نص قانوني، أو حقوقي، تحكمه هواجس توزيع السلط، والتفصيل فيها -على غرار الدستور الفرنسي- بل يعتبر مرتبطا أيما ارتباط بالنقاشات التي تدور في المجتمع، حتى إنه "يمكن اعتبار الدستور نصا أو متْنا ثقافيا أيضا، بنيته كما مضامينه في صلب الهوية"، تم تعريفها في نقاشات 2011، سنة التصويت على الوثيقة الدستورية الجديدة..

وهي الوثيقة التي تحدد بشكل كبير تعريف الهوية، أكثر مما يعرفها التاريخ واللغة والدين لوحدهم..

ولعل التحول الجوهري الحاصل، والذي يفسر جزئيا شراسة النقاش حول القوانين الدستورية سواء أثناء وضعها أو حين مناقشتها في لجن البرلمان، يكمن في كون المكونات السياسية والثقافية، صارت تحتكم في هويتها الثقافية وتعريفها وتحديدها إلى النص الدستوري أكثر من التعريفات العامة... من خارج الدستور والمتعالية عليه لأسباب تاريخية وأخرى دينية.

إنه دستور ثقافي يحدد المواطنة الجديدة.

2- لا ينحصر السؤال هنا، عند جزء من النخب، التي ترعرعت مع ذلك في مشتل التفكير والنزعة الدستورانية الفرنسيين، في من يحكم -سيادة الشعب، سيادة نظام الأحزاب، المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة فقط- أو في كيفية الحكم -البرلمان بغرفتين، التوزيع الدستوري للسلط إلخ إلخ- بل يتسع إلى ما هو أبعد بالتنصيص على كيفية إعادة بناء هوية متجددة..

وهنا يمكن الاستعانة بمبدأ الوطنية الدستورية، patriotisme constitutionnel  كما يراها يورغن هابرماز… أي في كون الهوية المشتركة، كما تحركها الوطنية الواعية، تشجع على بروز المواطنة الديمقراطية. علاوة على أن الإحساس بالانتماء المشترك، يسهل إقامة الديمقراطية، والتي تقوي بدورها من التضامن بين المواطنين عوض الزج بهم في الطائفية والتناحر الهوياتي، والاستحالات الثقافية

ولذلك، فإنه على عكس الدساتير القانونية البحتَة كالفرنسية، ليس الدستور الحالي في المغرب متروكا للخبراء الذين يحللون المحتويات المسطرية ويفككون قلب السلطة فقط. إنه الدستور كمرجعية لانتماء كوني، يمكن الرجوع إليه في أي نقاش مجتمعي وليس فقط في الجدال القانوني والقضائي والتنفيذي وما إلى ذلك..

في خضم التحول الجاري، يمكن تحرير الأسئلة القوية والعميقة من الارتهانات السياسية والحزبية اللصيقة بالصراع السياسي الظرفي، وفيه تصبح الديمقراطية، ودولة الحق والقانون وحقوق الإنسان مطروحة كقيم وليس كمبادئ فقط

وقد عاش المغاربة بعضا من الصراع القوي في الآونة الأخيرة حول هذا الدستور الثقافي، الذي يوسع من مفهوم الديمقراطية، والمواطنة ومفاهيم هيكلية أخرى في بناء الوعي السياسي للحاضر والمستقبل، ولكنه نقاش يتحرر من معادلة صعبة الحسم: دولة مدنية أو دولة دينية، ويجيب عن السؤال بتركيبة دينامية ومنفتحة على التفاعل مع التاريخ، تجعل من الوطنية الدستورية، وتفعيل بنود الدستور الثقافي، باعتباره نصا تاريخيا، إعلان ميلاد جديد للدولة وآلياتها وإشكالاتها…إن الوطنية الدستورية لا تعني فقط الانتماء المبني على هوية ثقافية مشتركة لا غبار عليها، بل تعني أيضا الانتماء المبني كذلك على مبادئ دستورية ذات منزع وطابع كونيين..

لم تكن الإشكالات الثقافية حاضرة في النقاش الدستوري المغربي كما هي اليوم، ومع ذلك، لا يمكن أن نتسرع في اعتبار الثقافة مشتقا من مشتقات الدستور..

وإن كان من المحقق أن التأثير الذي سيحصل بدسترة النقاش حول الثقافة أو تأصيل الطابع الثقافي للدستور، سيكون تأثيرا جوهريا يشجع على عدم السقوط في معادلة بحدين لا يلتقيان: دولة دينية أو مدنية مطلقة!