الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ، استقلالية القرار الوطني بين الرؤية الاقتصادية لبوعبيد والسياسة الخارجية لبلافريج

جمال المحافظ، استقلالية القرار الوطني بين الرؤية الاقتصادية لبوعبيد والسياسة الخارجية لبلافريج جمال المحافظ

تحفل تجربة المجلس الوطني الاستشاري بالعديد من الدلالات والعبر لمغرب بدايات الاستقلال (مرحلة الأمل والعنفوان والتعثر والانكسار أيضا)، على الرغم من أن طريقة انتداب المجلس لم تخضع لآليات الديمقراطية الانتخابية، فإنه رغم ذلك شكل مرحلة انتقالية في مسار إقرار حياة نيابية تمكن الشعب من تدبير شؤونه في نطاق ملكية دستورية.

ليس الغرض تسليط الضوء على تجربة المجلس الوطني الاستشاري الذى أحدث بناء على ظهير ملكي صادر في الثالث من غشت 1956، وإنما الهدف الرئيس تناول ومقاربة التفاعل ما بين حكومة تتلمس طريقها في تدبير الشأن العام واستكمال تحريرها من القيود الاقتصادية والعسكرية المترتبة عن الاستعمار وبراثين الجهل والاقطاع والرجعية، ومجلس مناط به مهام إبداء الرأي فيما يعرض عليه من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية.

لقد شكلت ولاية المجلس التي استغرقت سنتين (1956 - 1958)، تمرينا حقيقيا فتح في ظل سياقات سياسية صعبة أفقا جديدا في مسار إرساء نظام ديمقراطي تترجم مؤسساته التمثيلية الإرادة الشعبية، وخطوة تأسيسية ترمى الى ضمان المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، كما عبر عن ذلك المغفور له محمد الخامس في الخطاب الذى القاه بمناسبة افتتاح هذا المجلس، الذى كان يتألف من 67 عضوا يمثلون هيئات سياسية ومنظمات اقتصادية واجتماعية فضلا عن ممثلين عن هيئات مهنية وشبابية ورياضية وفعاليات مستقلة..

وشكلت الجلسات العامة التي عقدها المجلس لمناقشة العروض التي يقدمها الوزراء حول القطاعات الحكومية التي يشرفون عليها فرصة للوقوف على حقيقة الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتدابير  المتخذة من لدن الحكومتين الأولى والثانية، للخروج من الوضعية التي خلفها الاستعمار، وذلك من خلال تناول القضايا الوطنية والوقوف على الحالة الاقتصادية والمالية ومناقشة ميزانية التسيير ودراسة برامج التجهيز.

وفي هذا السياق، كان العرضان اللذان قدمهما كلا من وزير الاقتصاد الوطني عبد الرحيم بوعبيد (1920- 1992)، ووزير الشؤون الخارجية أحمد بلافريج (1908- 1990)، لحظتين متميزتين طبعتا أشغال المجلس، وفتحت نقاشا  هاما بين مختلف مكونات المجلس (أغلبية ومعارضة)، وجد صداها خارج هذه المؤسسة، بفضل ما كانت تنشره الصحافة الوطنية.

فإذا كان المغرب "اتنصر انتصارا باهرا" في معركة الاستقلال السياسي باسترجاع سيادته، فقد بقي عليه أن يخوض معركة الاستقلال الاقتصادي، باعتبار أن نتيجة هذه المعركة وحدها الكفيلة بضمان التحرر الكامل للامة المغربية. غير أن دراسة الحالة الاقتصادية والمالية "لا تكون كاملة وصحيحة، إلا إذا وضعت في سياق الظروف السياسة التي تحيط بها"، حسب عبد الرحيم بوعبيد الذى قال إن هذا الأمر يقتضى أن يهيئ الاستقلال السياسي الوسائل الضرورية لوضع نظام لازدهار الاقتصاد الوطني، الذى يشكل الضمان الوحيد للاستقلال الحقيقي والشرط الأساسي لتحسين حالة الجماهير الكادحة.

غير أنه نبه في هذا الصدد إلى عدم تحميل كل المسؤولية في هذا الوضع الاقتصادي إلى الظروف السياسية بمفردها، ولكن يعود في جانب هام منه للإهمال والمماطلة في اتخاذ التدابير التي كانت تتطلبها هذه الوضعية منها التغلب على الفتور الحاصل في بعض الميادين الاقتصادية، وعدم الاشتغال بها اشتغالا جديا فضلا عن التأثر بالنظام المورث عن الجهاز الاداري للحماية.

ومن أجل الخروج من هكذا وضع، اقترح أول وزير مغربي للشؤون الاقتصادية، بالخصوص أن يتم وضع حد للفوضى والفتور اللذين يوجدان في مختلف مرافق الدولة، واصفا  في هذا الساق بـ "العبث أن تقدم الحكومة برنامجا اقتصاديا بعيد المدى، قبل ان تهيء الوسائل الضرورية له، وأن تسعى إلى تصفية الحالة الراهنة وإقامة نظام إداري جديد. وأثار الانتباه إلى أن عددا من الذين يحلمون بعودة ماض كان النظام فيه مطية للجور والعسف والنهب، سيسعدون بإحداث الفوضى والاضطراب حتى يقيموا الدليل على أن المغرب المستقل ليس في استطاعته أن يقوم بوحده بمهامه بالداخل والخارج بهدف عرقلة سيره لاستكمال مقومات سيادته وتعريض استقلاله للخطر وتقويض جريته.

إلا أن دراسة الحالة الاقتصادية والمالية بالمغرب "لا تكون كاملة وصحيحة، إلا إذا وضعت في سياق الظروف السياسة التي تحيط بها"، وهو ما يجعل الاستقلال السياسي يوفر الوسائل الكفيلة بوضع نظام لنمو الاقتصاد الوطني وازدهاره، الضمان الوحيد للاستقلال الحقيقي والشرط الأساسي لتحسين حالة الجماهير الكادحة.

وفي تقاطع بين السياسة الاقتصادية والسياسة الخارجية للمملكة، أكد أحمد بلافريج أول وزير للشؤون الخارجية، أن من المظاهر الحقيقية للاستقلال، تحرير السيادة والحرية في إنشاء جيش وطني وإحداث وزارة الشؤون الخارجية، في وقت لم يكن يوجد أي مظهر من مظاهرها  لا  في الداخل ولا في الخارج.

وإذا كانت الاتفاقية الدبلوماسية المبرمة مع فرنسا، تعد  أول عمل لتحرير السيادة الخارجية للمملكة، كما أن ربط الصلات الدبلوماسية مع الخارج وإنشاء السفارات والقنصليات كان من وسائل في تدعيم هذا الاستقلال، فإن بلافريج أكد أن السياسة الخارجية القائمة على أساس حرية الاختيار تقتضى أن تكون البلاد تامة التحرير لا يقيدها الإرث الثقيل الذى ورتته عن عهد الحماية والتقسيم والاضطلاع بالدفاع عن استقلال البلاد والذود عن مصالحه والاحتفاظ بكرامته وإبادة الفكرة الخاطئة التي نشرتها المصادر الاستعمارية عن البلاد في أنحاء العالم.

فعلى الرغم من أن البلاد أصبحت تتوفر على حرية التحالف والتعاقد والتفاوض في الميدان السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإن بلافريج أوضح أن ممارسة هذا الحق عمليا تعترضه القيود التي لازالت تحد من هذه الحرية أهمها وجود جيوش أجنبية فوق التراب الوطني في إشارة إلى الجيش الفرنسي والإسباني والقواعد الأمريكية.

ومن بين العراقيل التي تحد من الحرية السياسية، أيضا الضغط الفرنسي في الميدان الاقتصادي، الذى تعمل الوزارة المعنية جاهدة على تحرير الاقتصاد الوطني والخروج به من الحجر الذى فرض عليه إلى اقتصاد حر غير مكمل، ولا تابع للاقتصاد الفرنسي موضحا أن المغرب يعتمد سياسة خارجية واقعية أساسها التعاون مع من يريد التعاون، شريطة احترام استقلال البلاد وسيادتها.

وأكد، في إشارة إلى مواقف المعارضة، على أن العرف المتبع عند الدول التي نضجت فيها الفكرة الديمقراطية، يقتضى أن الاحزاب مهما اختلفت في السياسة الداخلية، فإنها تكون صفا واحدا أمام المشاكل الخارجية الكبرى. أعرب عن اعتقاده بأن العزلة لا خير فيها للمغرب الذى حينما انعزل عن العالم بحجة الدفاع عن استقلاله وضمان حريته، فقد استقلاله وتخلف عن ركب الحضارة، لأن الدفاع عن استقلال البلاد ليس معناه العزلة عن العالم والرجوع إلى الوراء.

لقد انتبه الوزيران المغربيان إلى العلاقة الجدلية القائمة بين كل من الديمقراطية والتحرر الاقتصادي والسياسة الخارجية، ودورهما في صيانة استقلالية القرار الوطني في مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب الحديث، والتي مازالت تداعياتها ترخى بظلالها على المراحل التي تلتها.

- جمال المحافظ، كاتب صحفي