الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد أكديد: زيارة البابا تخرج شيوخ التكفير من جحورهم!

محمد أكديد: زيارة البابا تخرج شيوخ التكفير من جحورهم! محمد أكديد: باحث في علم الاجتماع السياسي وقضايا الأقليات الدينية
 

مرة أخرى يطل آباء التكفير والتطرف برؤوسهم لإشهار حرابهم في وجه محاولة جريئة للتعبير عن التعايش والتسامح بين الأديان، وذلك عندما تم خلط الأذان بالموسيقى في اللوحة الفنية التي قدمت أمام الملك محمد السادس وبصفته أمير المؤمنين وضيفه البابا الذي يمثل جانبا من العالم المسيحي.
حيث عمد عدد من شيوخ الوهابية السلفية في المغرب إلى الهجوم على هذا المشهد الذي يختصر أسمى معاني التعايش والسلام بين الأديان السماوية، كالشيخ حسن الكتاني الذي قام بمشاركة منشور لأخيه د.حمزة الكتاني في صفحته على الفايسبوك يصف فيه خلط الأذان بالترانيم المسيحية بالكفر والإلحاد، والشيخ حماد القباج الذي ربط هذا الخلط بالوثنية خلال تصريحه لعدد من المنابر الإلكترونية! كما دعا في تهديد مبطن وزارة الأوقاف إلى تحمل مسؤوليتها!

إن العقلية التي تستنكر وتشجب هذا المشهد هي نفسها التي قامت يوما في وجه الفنان مارسيل خليفة -الذي يحل علينا أيضا ضيفا عزيزا هذه الأيام- وهو يغني "أنا يوسف يا أبي" بدعوى اقتباس كلمات الأغنية من القرآن، وهي نفسها التي تحرم الموسيقى كإبداع إنساني نبيل يتجاوز كل اللغات ويوحد أحاسيس البشر، وذلك بناء على تأويلات متزمتة لبعض الآيات كقوله تعالى:"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ" [سورة لقمان:6]، حيث تم ربط تفسير "لهو الحديث" هنا بالغناء والمزامير عند معظم المفسرين بالمأثور وعلى رأسهم ابن كثير، حيث يقدم هؤلاء النقل -وفيه ما فيه من خلاف حول الأحاديث الموضوعة على لسان الرسول (ص) والمنسوب أغلبها إلى عدد من الصحابة والتابعين- على العقل الذي لا يرى تناقضا بين رسالة الموسيقى وجوهر الدين الذي يقوم أيضا على نفس أهداف هذه الرسالة وهي التواصل والتآخي ونشر الحب والتسامح بين الناس على اختلاف أعراقهم وأفكارهم وأديانهم.

بل إن الترتيل في القرآن نفسه ينبني على مقامات وقواعد موسيقية، وكم من قارئ تحول إلى مطرب والعكس صحيح.والأذن تطرب لسماع الصوت الندي، وقد كان النبي (ص) يحب سماع القرآن من الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (رض) وقد كان حسن الصوت، كما جاء في بعض الأثر، واختار (ص) بلال بن رباح (رض) للأذان نظرا لصوته الجميل، والذي كان يطرب له الجميع، فكان (ص) يقول له: "أطربنا به يا بلال". كما تمج الأذن أيضا الصوت النشاز الذي لايطرب ولايحترم المقامات الموسيقية، ولو كان اختيار المؤذنين في المملكة يراعي هذا المعيار (أي الصوت الندي والمطرب، كما يقع في عدد من البلدان الإسلامية) لما اشتكى أحد من رفع صوت الأذان كما بتنا نسمع بين الفينة والأخرى.

  وقد كان الطبيب والفيلسوف العبقري المسلم أبو بكر الرازي، والذي صنفته المستشرقة الألمانية "زغرد هونكه" في كتابها القيم "شمس العرب تسطع على الغرب" كأعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق، وقد ضم في كتابه "الحاوي في الطب" كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925م، وظل المرجع الطبي الرئيسي في أوروبا لمدة 4 قرون، يستعمل الموسيقى لعلاج المرضى إبان الفترة الذهبية للحضارة الإسلامية، وقد استهدفه أيضا فقهاء النص في تلك الفترة (السلفيون اليوم) وشهروا في وجهه حراب التكفير والتبديع والزندقة، كما شهروها في وجه كبار فلاسفة المسلمين أمثال ابن رشد والكندي والفارابي وابن سينا والتوحيدي، وتسببوا في إحراق وضياع تراث كبير من المعارف والكنوز التي خلفها هؤلاء، وقد استثمر الغرب جزءا كبيرا منها في نهضته.

إن هذه العقلية التي ترتبط بفكر بدوي عف عنه الزمن، وتدعي في نفس الوقت وصايتها على عقائد المسلمين وممارساتهم بدعوى حماية المقدسات والشعائر، هي نفسها التي تعيق انفتاح وتقدم المسلمين، وتعطل كل محاولة للنهضة والتنوير في العالم الإسلامي، بل وتتهم رواد التجديد والفكر المتنور بنفس التهم الجوفاء التي كانت تكال لآباءهم من الفلاسفة والمتنورين على مدار التاريخ الإسلامي. كما تساهم في تكريس العداء ومشاعر الكراهية بين المسلمين وأتباع الأديان السماوية الأخرى، مما يعرقل كل محاولة للانفتاح والحوار مع باقي الحضارات والأمم الأخرى في إطار تثمين المشترك الإنساني الذي لايعترف بالانغلاق والتقوقع، ويتجاوز كل مظاهر الاختلاف والخصوصية نحو فضاءات أرحب للتواصل البناء واستثمار كل روافد التنوع الثقافي لخدمة الجنس البشري وبناء صرح الحضارة الإنسانية.