الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

سفيان الحتاش: في المسلكيات السياسية والمدنية لحل أزمة الحراك

سفيان الحتاش: في المسلكيات السياسية والمدنية لحل أزمة الحراك سفيان الحتاش

لم يكن لتوقفنا عن الكتابة حول حراك الريف ومستجداته وإشكالاته السياسية والاجتماعية والحقوقية... التي أفرزها ينطلق من الرغبة في المقاطعة والقطيعة مع الحراك أو حتى تعبيرا عن يأس أو قنوط قد تكون حصلت على مستوى الشعور الإنساني بعد ما آلت إليه الأمور، بسبب التصلب المخزني في التعامل مع ملف الحراك وتمسكه بالمقاربة الأمنية والقضائية، أو نتيجة هيمنة الخطاب الغوغائي الطائفي التخويني في الجهة المقابلة، الخطاب، الذي يثير الغرائز الطائفية والإثنية ويرفض بسبب الجهل وقصور في النظر أي دعوة للتنظيم وعقلنة الحراك وبلورة تصور سياسي ورؤية تنظيمية واضحة التي بدونها يستحيل أن ينجح أي حراك أو دينامية اجتماعية في تحقيق أهدافها.. كما نؤكد دائما في كل الكتابات والمداخلات والنقاشات مع الإخوة من النخب المثقفة بالريف. رغم أنني طيلة هذه المدة لم أتوقف عن حضور النقاشات والمشاركة في المداخلات الإذاعية والتلفزيونية التي تهم موضوع الحراك.

 

إننا طيلة هذه المدة التي توقفنا فيها عن الكتابة، كنا نتأمل الوضع القائم ومآلات الأحداث وتطوراتها الدرماتيكية، على كل المستويات السياسية والفكرية والتنظيمية، خاصة بعد تحول مركز ثقل الحراك إلى أوروبا، بعد اعتقال أغلب نشطائه الأساسيين في الداخل. لقد بقيت كل الأسئلة الكبيرة من دون جواب!! فمن سؤال عن كيف تجاوز الحراك النخب وعجز هذه الأخيرة في الداخل والخارج عن تفسير ظاهرة الحراك وانفلاته من كل أطر سياسية وفكرية ومدنية! إلى سؤال ما العمل لإطلاق سراح المعتقلين وتحقيق الملف المطلبي لأهلنا في الريف أمام اختلال واضح لموازين القوى لصالح قوى السلطة والمخزن، خاصة بعد إحكام القبضة الأمنية على المنطقة؟ لقد بدا المشهد أكثر من سوريالي أمام الانقسام الحاد بين النشطاء الحقوقيين والسياسيين المنتمين إلى الريف بأوروبا بعد انشطار "الدياسبورا الريفي" في أوروبا إلى قطبي الجمهوريين والديمقراطيين. وإذا كان الطرح الجمهوري لا يعدو كونه ظاهرة صوتية مع كثير من الببروغدا الكلامية التي تسعى إلى خلق مزيد من التوتر عبر تجذير فارغ في المواقف وإنتاج خطاب سبابي منحط اخلاقيا لغرض خدمة أجندة معينة، فإن التيار الديمقراطي نفسه لم يستطيع تجاوز كثير من الالتباسات على مستوى الفهم والتحليل والرؤية الاستراتيجية، وبدا مرتبكا في كثير من المحطات والمواقف في مسار الحراك.

 

لقد سقط الجميع جمهوريين وديمقراطيين في وهم الرهان على التغطية الحقوقية والسياسية الدولية لملف الحراك، خاصة مؤسسات الاتحاد الأوروبي الحقوقية والسياسية، للضغط على الدولة المغربية لإطلاق سراح المعتقلين، وذلك فيما يظهر أنه ثمة فهم سطحي وملتبس لطبيعة العلاقات الدولية وعدم الإدراك العميق لطبيعة الصراع وأطرافه وخلفياته المصلحية والجيوسياسية، تعاني منه هذه القوى. لقد ظهر ذلك في يسمى بجائزة "زاخاروف" لحرية الفكر التي أسسها البرلمان الأوروبي. ورغم الخلفية الأيديولوجية والسياسية الواضحة للجائزة وطبيعة المؤسسة التي تمنحها تماهت كثير من القوى الديمقراطية مع الفكرة في تناقض صارخ مع الأسس والمبادئ التي تؤمن بها هذه القوى و التي من المفترض أنها ستجعلها على مسافة من هذه المتاهات التي لن ولم تقدم شيء للحراك سوى مزيد من تشديد القبضة الأمنية وتحكيم المقاربة القضائية على ملف المعتقلين.. كما ان المكون الديمقراطي في الحراك الأوروبي لم يستطع أن يبلور رؤية سياسية وتنظيمية واضحة تجيب على سؤال المسلكيات التي يجب اتباعها لتحقيق أهداف الحراك وإطلاق سراح المعتقلين، وبقي سلوكه النضالي والسياسي رهين ردود الأفعال، وسقط في وهم التغطية الحقوقية الدولية لإطلاق سراح المعتقلين.

 

نحن هنا لا ندعو إلى القطيعة مع الحراك الأوروبي، كما لا نسفه نضالات المناضلين الشرفاء في أوروبا، ولكن ما نؤكد عليه هو ضرورة امتلاك رؤية سياسية واضحة وخارطة طريق للخروج من الأزمة، رؤية وخارطة تجمع بين الإجابة على الأسئلة المرحلية في مقاربة الملف الحقوقي والإنساني للمعتقلين وبناء تعاقدات داخلية مع كل القوى الحية بالبلاد في إطار من التوافق المرحلي على برنامج حد أدنى يشمل كيفية صياغة لورقة مشروع مجتمعي تلتف حوله كل القوى الديمقراطية بالبلاد، وذلك في سياق ومرحلة دقيقة تشكل علامة فارقة في تاريخ المغرب الراهن. وفي شق حراك الريف لابد من التوافق على أرضية حد أدنى بين كل الأطياف الريفية وتوحيد الكلمة في أفق إيجاد توافقات وتعاقدات مع مؤسسات الدولة لإطلاق صراح المعتقلين. أعتقد أن المرحلة تتطلب هذا التوافق من الحد الأدنى بين الفاعلين الريفيين بما في ذلك من هم في الأحزاب، وإلا فموازين القوى مختلة والمعتقلون سيدفعون عمرا من حياتهم في السجن لا قدر الله.

 

أتمنى صادقا من الحركة السياسية للحراك في أوروبا -ونقصد هنا بالنقد الإخوة من الحركة الديمقراطية أما ما يسمى التيار الجمهوري فهو غير معني بهذا النقاش لأنه يوجد في حالة تعارض جذري مع الفلسفة السياسة والفكرية لهذه الورقة- أن تؤمن بأهمية التعاقدات والتوافقات الداخلية لبلورة حلول ومخارج للأزمة، وإن كان هناك من جهد نضالي في أوروبا، فإنه يجب أن يستثمر سياسيا في الداخل لتدوير الزوايا في السياسة، لأن الرهان على الخارج للضغط على الدولة أتصوره في تقديري المتواضع رهان بدون أفق، خاصة إذا أسندنا تصورنا بفهم عميق وعلمي لطبيعة العلاقات الدولية واحتكامها لمنطق صارم للمصالح الجيوسياسية، رغم أن الدولة المغربية يجب أن تعي مدى خطورة التحولات الدولية التي يمر منها النظام الدولي الحالي على مستقبلها الجيوسياسي، وبالتالي مدى أهمية نزع فتيل الأزمات الداخلية لتقوية موقع الدولة .

 

إن ملف حراك الريف في عمقه وطبيعته ملف سياسي؛ وبالتالي فإنه تبعا لذلك يستدعي حلولا سياسية تضع مصلحة المنطقة والبلاد فوق كل اعتبار، ويجب على الكل، دولة وقوى سياسة حية ونخبة مثقفة، الانخراط الجدي لتجاوز الأزمة لأن بقاء الأزمة مستمرة ليس في مصلحة أحد، فالدولة بعد عقود من تسويق لخطاب العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي.. تجد نفسها مضطرة أن تعتقل أشخاص يطالبون بحقوق اجتماعية واقتصادية تضمن لهم الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، كما حدث في الريف وجرادة ومناطق أخرى. إن الاحتفاظ بمعتقلين سياسيين في السجون أمام اتساع دائرة السخط الاجتماعي، خاصة بعد تولي حزب العدالة والتنمية للحكم يضعف الدولة ويجعلها تواجه أسئلة مقلقة في المستقبل، وسنهدر كثير من الوقت قبل أن نكتشف أننا نسير في الطريق الخطأ. وبالمقابل فإن القوى المحسوبة على الحراك عليها ان تؤمن بأهمية التعاقدات والتوافقات لإنتاج حلول للازمات، فالأزمات السياسية تحتاج لحلول سياسية، وهذه الأخيرة تحتاج إلى عقول سياسية باردة تؤمن بالحوار والتعاقدات للوصول إلى حلول لا غالب ولا مغلوب فيها.

 

- د. سفيان الحتاش، رئيس مركز الريف للدراسات والأبحاث