الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي:محمد ليدام كما عرفته

لحسن العسبي:محمد ليدام كما عرفته لحسن العسبي، و الراحل محمد ليدام ( يسارا)
غيب الموت، منذ أيام بالدار البيضاء الصديق والأخ محمد ليدام، بعد مقاومة للمرض بعزة نفس نادرة. هو الذي كانت له جولات سابقة منذ عقود مع الداء والأدواء، انتصر فيها بصبره السادر، حين قضى شهورا في أواسط الثمانينات (أعتقد) بين أقسام المستشفى الجامعي ابن رشد، وهناك جرب الكثير من معادن الناس كما كان يحكي لي رحمه الله، وكيف كان ينتصر على ألم الداء بالقراءة والقراءة، ثم في ما بعد بالمشي الطويل ليلا داخل حدائق المستشفى الكبير ذاك. كان يحكي عن قصة تلك المؤسسة ببناياتها المتعددة والمتباعدة، وكيف أنه أصبح يعرف كل دهاليزها وممراتها السرية. وأيضا قصة إنشاء تلك المؤسسة الطبية التي كانت تحمل اسمين، كونها كانت مقسمة إلى مستشفيين واحد هو مستشفى الدكتور "موريس غو" والثاني هو مستشفى الدكتور "جيل كولومباني"، وكيف أنه تم دمجهما في مؤسسة استشفائية واحدة تحت إسم "المستشفى الجامعي ابن رشد" سنة 1956، واشتهر الإسم الأول، بعد أن حوره التعبير الدارج الشعبي إلى "موريزغو"، ونسي اسم الدكتور كولومباني.
تعود معرفتي بالأخ محمد ليدام رحمه الله، إلى بداية الثمانينات، وبالضبط سنة 1982/ 1983، وأنا حينها تلميذ بالثانوي، منتظم ضمن صفوف الشبيبة الإتحادية بفرع عين الشق، الذي كان من أنشط الفروع التلاميذية والشبيبية بالدار البيضاء رغم الحصار الذي كان مضروبا على المقرات الإتحادية منذ أحداث 20 يونيو 1981 (أذكر أن الأخ عبد الله معاشو، وهو لا يزال تلميذا، كان يحضر معنا بعض أنشطة الفرع بسبب عدم تواجد إطار تنظيمي حينها بعد في حيه بسيدي عثمان). كنا عمليا، نلتقي نحن جماعة من تلاميذ عين الشق بالكتابة الإقليمية كلا من الإخوة الطاهر وديعة، محمد ليدام، لحسن القرني ومحمد بهجاجي، وكان صلة الوصل التنظيمية لنا معهم هو محافظ الكتابة الإقليمية تلك، المرحوم "با حرتوف". وكان رحمه الله متحمسا لتجربتنا التي أنشأناها بفرع عين الشق المتعلقة بتنظيم دروس للتقوية لتلاميذ الباكالوريا، قبل أن تتعمم التجربة على باقي فروع الحزب بالدار البيضاء ثم بالمغرب.
حين التحقت بالكلية، تباعدت اللقاءات بيننا بسبب ظروفه الصحية حينها، ولن نلتقي سوى في نهاية التسعينات بمقر الجريدة، حين عينه الأخ عبد الرحمان اليوسفي، بعد عودته إلى تحمل مسؤولية الكاتب الأول للحزب وإدارة جرائده، كاتبه الخاص وأمين سره بالطابق الخامس ب 33 زنقة الأمير عبد القادر. أصبح سي محمد ليدام أكثر صمتا، حتى لا أقول أكثر حزنا، كان شيئا ما قد انكسر في الرجل. لكنه بقي وفيا لذات قيمه السلوكية، وهي الصمت وحفظ الأسرار والتجاوز عن أي استفزاز مهما كان مصدره، بكل ما تسبب له فيه ذلك من ردود فعل من قبل بعض الإخوة الذين ربما لم يكونوا يعرفون قصته وتاريخه الخاص ومسيرته النضالية، وطبيعة شخصيته المتأسسة على تربية مدينية بيضاوية أصيلة. فسي محمد ليدام كان "ولد الدار الكبيرة"، إبن درب الأحباس العريق، ببناياته الأندلسية، وله معنى خاص لقيم الرفقة، تلك التي تتأسس على قيم التعاضد وتربية "الدرب" التي تجعل الإنتماء يكون لعائلة موسعة من تجمع عائلات تجمعها الجيرة. ففي تلك المدرسة العلائقية والسلوكية ل "الدرب" تشرب سي محمد ليدام معنى للعلاقات تعاوني، أخلاقي، نبيل وصادق.
كنا نسرق أحيانا لحظات بمكتبه بالطابق الخامس، لنستعيد شغب الثمانينات، ونستدرج الذاكرة لقراءة مسارات كثير من الإخوة، بمحبة. وكانت له فضيلة امتلاك ذاكرة قوية، منضدة ومرتبة. مع درجة عالية عنده لعزة النفس. وأيضا علاقة صوفية مع بناته، اللواتي حين كان يكلمهن عبر الهاتف تستشعر أن خاطره يتراقص خوفا عليهن بحرص أبوي مضاعف. فقد كان الرجل لطيفا جدا في عواطفه كأب، يخاف نسمة الهواء على فلذاته. وحين تعرفت على شقيقه الدكتور نور الدين ليدام سنوات بعد ذلك، كنت أعيد من خلاله اكتشاف صورة أكثر نصاعة لشخصية سي محمد ليدام، فكلاهما يصدران عن قيم "للترابي" أصيلة وعريقة. فهما مختلفان طبيعيا، إذ لكل واحد منهما شخصيته المستقلة، لكنهما يشتركان في قيم التواضع الصادق وفي قيم العطاء بلا حساب، مع فارق ميز سي محمد ليدام، أنه كان البكر، وأنه كان مؤطرا بصورة أن يكون المثال في العائلة، كأب ثان. ومن يكتب له قدره أن يكون كذلك، يكون الضغط عليه أكبر، وهو ما كنت أستشعره دوما في الأخ محمد ليدام رحمه الله.