لقد كشف الإضراب الأخير الذي شهده قطاع التعليم مطلع الشهر الماضي، عن واقع تعليمي يبدو اليوم كمرآة عاكسة لوجهين مختلفين تماما، وجه أول "ظاهر" يعكس رؤيـــة إصلاحية غير واضحة المعالم، لم تقو على إزاحة الحجر الذي يعتري المضمار المدرسي، ولم تستطع تجـــاوز الكبوات وتقديم قرابين الأمل في مدرسة عمومية متفتحة ومنصفة وعادلة تتحقق في رحابها مفردة "مدرسة الحيــاة"، ووجه آخر"خفي" يبدو كجمر حارق راقد تحت رمـــاد ساكن، كلما توهج لهبه، كلما تم إخفاؤه برماد "التجاوز" و"عدم الاكتراث" و"التسويف"، ويكفي استقراء المطالب والشعارات التي رفعت في الإضراب الأخير، لتلمس عمق الاحتقــان المستشري وسط الشغيلة التعليمية بكل انتماءاتها، بدءا بالأساتذة المحاصرين في ما أضحى يعرف بالزنزانة 9 والأساتذة شيوخ النظامين الأساسيين، مرورا بالمشاكل التي تعتري أطر الإدارة التربوية وأطر هيئة التفتيش وانتهاء بأزمة التعاقد التي انضافت إلى "جرة" الاحتقان" ، دون إغفال هزالة أو انعدام التعويضات في مهمات محورية من قبيل"مراقبة" و"تصحيح" الامتحانات الإشهادية والمهنية أو تلك المرتبطة بمباريات التوظيف بالتعاقد ...إلخ.
مشاكل وغيرها، عمقت بؤرة "الانكسار" وقوت الرغبة الجامحة في التمسك بحبائل الانتظار في واقع تقرع فيه طبول "العبث" و"الإحباط" و"انسداد الأفق"، وقد كان من المفروض أن يتم استثمار معطيات الإضراب الوحدوي الذي انخرطت فيه مختلف مكونات الشغيلة التعليمية، لتجاوز سياسة الرماد المسكن للداء والقطع مع نهج الآذان الصماء، من أجل الالتفاتة لواقع الشغيلة التعليمية بكل انتماءاتها حفظا للمدرسة العمومية من "أنفلوانزا" الاحتقان وصونا لمشاريع الإصلاح، وقبل هذا وذاك، رد الاعتبار لرجل التعليم الذي تراجعت قيمته في بورصة المجتمع بشكل مثير للخجل والقلق، لكن "دار لقمان" ظلت على حالها، وبدا "الإضراب" كصرخة في صحراء قاحلة، أو كنقطة ضوء عابرة في ظلام كاسح، بل وحتى "الحوار الاجتماعي" الذي ألقيت كرته في مرمى"الداخلية"، ما لبث أن عاد إلى سكة العبث والجمود، دون اكتراث لتنامي موجات الإحباط وتمدد مساحات اليأس وانسداد الأفق وسط الشغيلة ...
"مشهد سياسي" مرتبك و"واقع اجتماعي" يبدوان كلوحة بدون هوية تزداد ألوانها تعقيدا، في ظل غلاء الأسعار وصعوبات العيش وتراجع الأجور عقب الاقتطاعات الأخيرة التي مست جيوب الموظفين ، يفرضان "سياسة" تسمو عن لغة "الحمير" و"البغال" وما "تحت البغال" و"فوق الحمير"، وتنأى بنفسها عن الصراعات السياسوية الخفية والمعلنة والضرب تحت الحزام والبحث عن النقط، وتجاوز منطق الربح والخسارة والجري الأعمى وراء الكراسي والمناصب على حساب الوطن، "سياسة ناجعة" تنصت لنبض المجتمع وتعبر عن همومه وقضاياه وتطلعاته، وتبحث عن الحلول اللازمة للمشكلات القائمة في إطار "الممكن"، و"النقابات" الأصيلة مهمتها الطبيعية الدفاع باستماتة عن حقوق ومكتسبات الشغيلة دون كلل أو ملل ودون انحناء أو تنازل بحثا عن مكاسب عابرة عبور سحب الصيف، وبدون سياسة (حكومة) فاعلة ومسؤولة وفي غياب "نقابات" صامدة وملتزمة، لايمكن البتة "زحزحة مشاكل" الشغيلة التعليمية بكل انتماءاتها ولا تحريك المياه الراكدة للحوار الاجتماعي ولا القطع مع بعض التعبيرات و"الخرجات" غير المسؤولة التي تزيد المشهد عبثا والصورة تعقيدا...
وعليه،وفي ظل واقع الرتابة، لامناص من القول، أن الرهان على إصلاح أعطاب المدرسة العمومية بمعزل عن الأعطاب المتعددة المستويات التي تعتري واقع الشغيلة التعليمية، كمن يراهن على كسب سباق بساق مبتورة في طريق حبلى بالمطبات، وأية "رؤية" إصلاحية لا تستوعب "الرأسمال البشري" ولا تعبر عن تطلعاته وانتظاراته، لن تكون إلا رؤية "مرتبكة" مقرونة بمفردات "الاحتجاج" و"النضال" و"الاحتقان"، والإصلاح الحقيقي، يفترض فيه معالجة الأزمة وتجاوز الكبوات وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل القائمة، وليس تعميق الأزمة وتغذية الاحتجاج وتكريس الاحتقان.
لذلك، ومهما كانت الصورة قاتمة، ليس من خيار، سوى "الأمل" في تلمس "مدرسة الحياة" على أرض واقع الممارسة، ليس فقط على مستوى المناهج والبرامج وطرق وأساليب التدريس الحديثة أو البنيات والوسائل البيداغوجية، ولكن أيضا على مستوى "الرأسمال البشري" الذي بدونه لايستقيم "إصلاح"، عسى أن يتراجع " جزر الانكسار"، ويحمل "مد الانتظار" تطلعات شغيلة تعليمية لا تطلب إلا "رد الاعتبار" ...
"رد الاعتبار" لايمكن أن يتحقق، إلا عبر إرساء أسس مناخ"محفز" يحفظ الكرامة ويقوي الإحساس بالارتباط بالمهنة ويفتح شهية المثابرة والتفاني والخلق والإبداع والابتكار، وفي هذا الصدد لامفر من القول أن مجموعة من الإدارات العمومية والمؤسسات الخاصة، لجأت وتلجأ إلى تحسين الظروف المادية والاجتماعية لموظفيها أو مستخدميها، بهــدف بناء جسور الثقة بينهم وبين إدارتهم المشغلة وتوثيق الصلات بها، ودفعهم إلى تجويد العمل والرفع من المردودية والإنتاج، وعليه لايمكن البتة، تنزيل أمثل للإصلاح بقطاع استراتيجي كالتعليم، ولا السعي إلى تحقيق جودة التعلمات والإسهام في ترجمة "مدرسة الحياة" على أرض الواقع، بشغيلة غارقة في أوحال اليأس والإحباط وانسداد الأفق، وفي مناخ مدرسي تتعايش في فصوله مفردات "الاحتجاج" و"التصعيد" و"النضال" ، يعكس رغبة جماعية في نيل حقوق مشروعة طال انتظارها، تحت لواء "نظام أساسي" عصري، يستجيب لجميع الانتظارات والتطلعات...