السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

سعيد جعفر: الرأسمال الاجتماعي.. لماذا يجب على المملكة حماية "مول الحانوت" ضد "بيم"؟

سعيد جعفر: الرأسمال الاجتماعي.. لماذا يجب على المملكة حماية "مول الحانوت" ضد "بيم"؟ سعيد جعفر

بالتفكير في هذا المقال في مبحث "الرأسمال اللامادي واقتصاد المعرفة"، أكون أختط مستوى جديدا في فهم دور الثقافة في تنمية الجماعة، وأغوص عميقا في التفكير الهادئ واليقظ.

 

وبعد كل الاهتمام الذي أوليته لدرس المسألة الدينية و تأثيراتها في تأمين المشترك الاجتماعي والفيزياء الاجتماعية، أخوض الآن في الرأسمال الاجتماعي وآثاره على الرأسمال المادي، وقد حرصت التطبيق على حالة "مول حانوت الدرب" لما يمثله من خطاطة متكاملة من القيم الإنسانية والوجدانية والاجتماعية والأخلاقية التي تسند الرأسمال المادي سواء كان ثابتا أو متحركا.

 

والحال أن ما يدعو الأجيال الجديدة من المثقفين والباحثين والمهتمين للانخراط بحماسة في البحث في المواضيع المرتبطة بالرأسمال اللامادي والتحولات المجتمعية، هو الواقع العالمي الجديد الذي أصبح يرهن أكثر مصير المال والاستثمارات بمناخ الثقة والتضامن والشفافية والفعالية والاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يتوفر له.

 

لقد أصبح الأمر أشبه بعلاقة سببية فيزيائية تتحدد فيها طبيعة النتيجة وحصرا من طبيعة السبب أو العلة. لقد جرب المغرب ودول عديدة وصفة التنمية المادية والاقتصادية دون ربطها عضويا برأسمال من الثقة والعلاقات التضامنية الاجتماعية وكانت النتيجة "غربة" هذه الاستثمارات والمشاريع عن البيئة التي استنبتت فيها، إذ لم تنجح في التكيف معها وفشلت الأخرى في احتضانها، ويمثل لنا بدون شك عدم تحقق نتائج كبرى من مشروع تحويل المغرب إلى منصة عالمية لألعاب الأغنياء والمشاهير (الكولف والتنس)، والتي كان المغرب سعى جاهدا لجعل دورتيهما بالمغرب ضمن الدورات الدولية المعتمدة كرولان غاروس وغيرها، ونفس الامر يهم بشكل أقل دورة الرباط لألعاب القوى.

 

كل الدول التي اختطت لنفسها مصيرا تنمويا قرنت الرأسمال المادي بالرأسمال اللامادي، ومنذ الثورات الثقافية التي دشنها الميجيون في اليابان وهوشيه منه في الفيتنام، وسياسة التنوع العرقي في أمريكا والدول الغربية، لاسيما فرنسا وألمانيا ودول البينيلوكس، وصولا إلى المحاولات الواعدة للإمارات العربية المتحدة وقطر، نلاحظ توجها فلسفيا وسياسيا متسارعا يثني على هذا الربط العضوي ويؤكد إيجابياته. بل إننا نجد باحثا خبيرا ومتمرسا كفيليب كيو يدعو صراحة إلى "عولمة عادلة لكل ما هو محلي من أجل تأمين النقد الدولي". وأن خبيرا في الاقتصاد السياسي، كموريس غودولييه، لا ينفك يوصي بتثمين العادات والتقاليد والأعراف المحلية بقيمها الحقيقية والعودة إلى كل ما هو محلي لأنه أصيل مقابل الكوني الذي هو متغير مما يضعف قيمه الرمزية والمادية، إذ يشبه الأمر بالعملة الذهبية أو الفضية التي تزداد قيمها التاريخية والرمزية والمالية مع تقادمها في الزمن في الوقت الذي تفقد قيمتها التي أحدثت من أجلها أول مرة.. "فالسياسة والاقتصاد يعطيانها حق تداول قانوني وقيمة صرف نقدي وتداول مالي ومصرفي لكن التاريخ يعطيها قيما جديدة مضاعفة مالية مادية ورمزية وثقافية ويعطي لحاملها امتيازا ملكية فوق-زمنية" كما احب أن أقول دائما عندما أصف الأشياء التي تنتمي إلى التراث اللامادي".

 

فنمط غنائي كالعيطة أو الطقطوقة الجبلية أو كناوة أو الطرب الغرناطي أو الاندلسي أو أحواش أو احيدوس أو الكدرة أو الهيت أو غيرها من الأنماط الغنائية الروحية والشعبية بالمغرب، ليست مجرد إرث من الماضي أو فلكلور استعراضي يمكن أن نوظفه سياسيا لتلحيم الجماعة البشرية ضمن المهام الموكولة للدولة الحارسة والراعية، بل قد يكون، ويجب أن يكون، ضمن هذه التوجهات العالمية لحساب وإنتاج الثروة وسيلة معتمدة من وسائل التثوير الثقافي وإنتاج الثروة.

وفي الحقيقة في الحالة المغربية نملك نموذجا مثاليا حيا حول حقيقة إسهام الرأسمال اللامادي في إنتاج الثروة المادية وربما أننا لا ننتبه له جيدا لأننا ربما لم نشكل تصورا ورؤية واضحين حول كيف نسند الثروة المادية بالرأسمال اللامادي أو كيف نوجه التراث لإنتاج المال والثروة.

 

 بطبيعة الحال بفلسفة واضحة وبرؤية سليمة، وليس عبر مجمل تلك الاجتهادات المختزلة والمتسرعة التي تختصر هذا الطموح الجبار والمبدع في بعض العبارات التائهة التي تزين بعض المهرجانات السنوية من قبيل "الموروث الثقافي في خدمة التنمية" و "التراث في خدمة التنمية والإنسان"، والتي غالبا يكون وراءها منتخبون جماعيون فاقدون لرؤية أفقية متكاملة ومحكومون بضيق أفق خانق.

 

المثال هو على الشكل التالي:

يمثل سوق الغناء الشعبي اليوم سوقا مربحا، ويكفي فحص سريع للمداخيل السنوية وربما للسهرة الواحدة لفناني الغناء الشعبي ليعطينا صورة واضحة عن كيف يؤدي التراث والرأسمال اللامادي إلى إنتاج الثروة والمال.

 

إن أفرادا كالستاتي وحجيب وطهور وبناني والصنهاجي وبوركون والستاتية والحاج عبد المغيث واولاد البوعزاوي واولاد بنعكيدة والشريف وغيرهم، لم يكونوا أبدا خريجي مدارس عليا في الهندسة والاقتصاد والقانون والطب وغيرها من المهن المنتجة للثروة والمال، وهم في غالبهم كانوا شبابا تعثروا في دراساتهم غالبا لأسباب اجتماعية وكانت حظوظهم من الثروة ضعيفة.

 

ما الذي جعلهم اليوم أغنياء ومداخيلهم المالية كبيرة؟ ما البضاعة التي يبيعونها أو ما الخبرة التي يقدمونها؟ وما الرأسمال المالي الذي استثمروه؟ وفي أي مشروع؟

 

في الحقيقة هؤلاء الفنانين الناجحين الذين يمثلون اليوم نماذج في العصامية هم نموذج حي لمعادلة سند الثروة المادية بالثروة اللامادية أو لنقل توظيف اللامادي لإنتاج الثروة والمال.

 

هؤلاء الفنانين لا يبيعون بضاعة خاما أو مصنعة ولم يفتحوا يوما مشروعا ولم يبحثوا عن قرض بنكي لتمويله كما يفعل آلاف الشباب الخاضعين لسلطة الرأسمالية وقوانينها.

 

هؤلاء الفنانين المغاربة كانوا شبابا يعيشون هويتهم وتراثهم وبلدتهم ودوارهم وحومتهم وسوقهم الأسبوعي وسقايتهم، وعبروا عنها بكل تلقائية فيما سيغنونه لاحقا.

 

فكل ما يقومون به وهم في الأعراس أو الحفلات الخاصة أو المراقص أو الساحات العامة في المهرجانات الكبرى او على المنصات والركح في القاعات الموسيقية العالمية، هو أنهم باختصار شديد يستثمرون الرأسمال اللامادي لإنتاج الثروة والمال والمادة.

 

هؤلاء الفنانين يغنون كلمات "شعبية" تنتمي إلى وجدان الشعب وتاريخه و تعكس هويته، ويعبرون عنها بإيقاع شعبي يعبر عن الهوية المغربية المتنوعة والمتعددة، يستعملون "كمنجة" او "وتار" أو "كنبري" وبندير وطعريجة صنعت من أرز غابات آزرو أو المعمورة أو بوسكورة ومن جلود ماعز ترعى بتنانت أو بزو أو أزيلال او الحاجب أو مولاي بوعزة أو هضاب حاحا أو إيمنتانوت او غيرها من الأراضي الفلاحية بالمغرب.

 

إننا اليوم على المستوى الجيو-استراتيجي أمام تركيز وفهم عميق وجديد لكيفيات انتاج الثروات ولم تعد الطرق والوسائل التقليدية كافية وحدها لتحقيق هذا الغرض، فالغنى الذي وفرته النظريات العلمية سواء كانت عقلية استدلالية أو تجريبية أمبريقية، والذي سيترجم في آلاف من التقنيات الماكرو والميكرو ثم الدقيقي فالذكية والتفاعلية، يبدو اليوم وصل مستوى من الإشباع والتخمة حد بدأ في دورة جديدة من الفقر والهشاشة في إنتاج الثروة.

- سعيد جعفر، باحث وناقد