يقدم عبد الإله حبيبي، الباحث في علم النفس، في هذا المقال، قراءة تحليلية للباس المغربي التقليدي والبلد الذي تعرض لغزو بشع من اللباس الأصولي القادم من شرق كئيب، حيث طغى اللون الأسود على تضاريس الجسد المكشوفة، معلنا عن غزو فكري ورمزي لفضائنا وثقافاتنا دون حياء أو احترام لميولات الناس، وطبائعهم المتأصلة فيهم منذ قرون:
التحرر ليس بالضرورة هروبا من الأخلاق، بل هو تسامي بالذات، وتهذيب لها بالشعر والأدب والموضة والأناقة.. لهذا كم من قارئ غير حافظ لغريزته سيجد في المقارنة بين اللباس العصري واللباس الناشئ عن تغلغل الخطابات الأصولية في بلدنا، تفضيلا للباس الغرب على لباس البلد، لكن الأمر ليس كذلك، اللباس البلدي هو بدوره ضحية، تعرض للحرب الإيديولوجية، لأنه تعبير عن عقلية مغربية، ترجمها الصانع التقليدي إلى منتوجات وألبسة، ومقتنيات تلائم مزاجنا، وتستجيب لأعراسنا ومناسباتنا، الجلباب المغربي يعاني من الحذر، من التهميش، من التأثيم، وبدوره جلباب المرأة المغربية وملحقاته لم يسلم من نفس الحرب، حيث خرج اللون الأسود من هوامش المدن الكبرى ليفرض حضوره في الأسواق والمتاجر، معلنا عن غزو فكري ورمزي فضائنا وثقافاتنا دون حياء أو احترام لميولات الناس، وطبائعهم المتأصلة فيهم منذ قرون. صحيح أن لباسنا وعاداتنا الغذائية والسلوكية قد طالها تغيير جذري منذ لقائنا الصادم بالاستعمار، حيث أن تغيير اللباس في زمن ما من تطور مجتمعنا جاء استجابة لتغيير في العقلية وفي السلوك الحضاري، إذ أن ظهور الحياة العصرية في سياق تشكل المدن والمتاجر والمسارح، وقاعات السينما، والشوارع الكبرى، والحدائق، صاحبته استجابة طبيعية، تمثلت في ذلك الشكل من الاعتناء بالمظهر الخارجي، الذي عبرت به الفتيات عن تفاعلهن مع عصرهن، كدليل على وعيهن الجديد بذواتهن، وكإعلان عن انقضاء زمن الحجب على الجسد، وانتهاء هوس الوصاية عليه، أو الخوف من إطلاق سراحه ليمرح في الفضاء العام.... لكن سرعان ما فتحوا الباب للفكر المضاد القادم من الفيافي والقفار، والصحاري الجغرافية والفكرية، كي يغزو المدن والأرياف، ويحجب وهج المتاجر والمؤسسات، مستعملا وسائل مالية كبيرة، وهكذا ستتحول الشوارع التاريخية للمغرب إلى جسد خجول، هارب من الأضواء، متنكر في أزياء الشرق الكئيبة، وكأنه يخفي وجها مقتبسا من زمن حضاري مذنب.. تضاريس الجسد المكشوفة لعبة جميلة عندما نراها تعكس تضاريس الطبيعة التي منها اشتق المهندسون البناء والتشكيل، وابتكار الأشكال لتنويع لحظات المعيش، وتوفير مناخ يلائم الحالة النفسية المتغيرة للإنسان العصري، ولم يكن يفكر أحد في عصيان السلف، أو رفض المعتقد وهو يستجيب لما تحمله الحداثة الفكرية والفنية والعلمية من مكتسبات لن تقف عند هذه الحدود، بل حتما ستجرف في طريقها كل الخراب الفارغ من صوت إنسان العصر… الناس يتفاعلون مع محيطهم بتلقائية ورغبة في الاندماج حتى يشعروا أنهم مثل الآخرين، يعيشون عصرهم بكل قوة وحماس، لكن منعهم من هكذا سلوك، لن ينتج عنه سوى مزيد من كراهية الماضي، والسخرية من دعاته، ونبذ خطاباتهم، والارتماء أكثر في أحضان كل التيارات القادمة من هنا وهناك حتى ولو كانت من الصنف الرديء والمدمر للذات والبلد والعقل والإنسان.