الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الغني السلماني: ابتسامة ماء العينين والشبق المجروح

عبد الغني السلماني: ابتسامة ماء العينين والشبق المجروح عبد الغني السلماني

لأكثر من أسبوع يتداول عدد كبير  من رواد مواقع التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” صور يعتقد أنها تعود للقيادية في حزب العدالة والتنمية، أمينة ماء العينين وهي بلباس غير مألوف باعتباره في ثقافة حزبها وجماعتها تبرجا، -"إن لم تخنني لغة التحقيب والنبش في الذاكرة بمعنى بلغة المتداول بدون "حجاب"-" في إحدى شوارع العاصمة الفرنسية باريس.

- السياق:

هذا الوضع خلق نقاشات وانتقادات بين مؤيد لماء العينين، باعتبار شكلها الجديد يدخل في سياق الحرية الفردية، ومعارض لها باعتباره "نفاق" سياسي. 

الصور التي ظهرت بها ماء العينين فيها إيحاء بأنها تنتمي إلى عالم الحداثة، وأن نعت حزبها بالتشدد والغلو سوى صورة مشوهة عند الخصوم السياسيين الذين يعتبرون حزب العدالة والتنمية مغرق في التقليدانية، ولهذا هي بصورتها الجديدة "إن كانت حقيقية" فيها إيحاء للعصرنة والفرح ومتعة الحياة، بالنسبة لي شخصيا لست مؤهلا لكي أبيح أو أرفض وأمتعض من شكل اللباس لأنني أحترم الأذواق، دوري فقط تتبع هذه الرموز ودورها في التمويه والتستر وقضاء مآرب أخرى، ماء العينين التي لم يتعود المغاربة رؤية شعرها، ظهرت بمظهر جديد جميل فيه إبراز للأنوثة وفرح اللحظة عبر الشعر المصفوف والابتسامة العريضة والأذرع العارية الباحثة عن المتعة هنا وهناك، ولا أحد يمنعها من ذلك مادامت راشدة ولها قدرات في الدفاع عن اختياراتها وذوقها .

يقول مسامير السياسة العاشق يلقاها يلقاها. إنها السخرية اللاذعة التي أصبحت تلاحق السياسيين المغاربة، إنها اللعنة والاغتيال الرمزي حين يكون الاستثمار مبني على الأخلاق والمشترك وليس على الطروحات والبرامج، إنها التفاهة حين يصبح الرأي العام يناقش الهامش والمسكوت عنه باستراتيجية الإلهاء وقتل الوقت وتعميم ثقافة الوشاية، إنها السخرية حين تأكد أن الخصم يملك الحجج والأدلة في المعركة، فلم تنفع  قصص الإفك، ولا جيش الانكشارية من كسب الرهان، خسران  المعركة مسألة وقت وحساب أيضا... لذلك كل التعليقات لم تخلوا من قسوة على صاحبة اللوك الجديد في "الغربة" وهي تتماهى مع  إرث الأنوار في نشوة  اختيار اللحظة  والأفكار والمواقف والدلالات وفق استراتيجية الزْهو، التي تتعارض و لا تخلو من توجسات تعاند السائد والرجعي والمتخلف.. المظهر الجديد هناك عادي جدا، وأي تصفية سياسية والبحث عن ردم سياسي في الصورة، قد يكون مباحا من قبل تصيد اللحظة السياسية، ومرفوض من قبل القناعة الحقوقية التي تدافع عن الحرية الفردية. ويمكن أن تحررنا ماء العينين من نقاش تقليدي جاثم على المعتقد الجمعي؟

- اللباس كرمز "للحشمة":

في زمن السيطرة على المقدس أصبح كل شيء مُؤدلج حتى اللباس ومن منظور الفهم الديني المنغلق، اللباس يبقى من منظورهم يدخل ضمن القضايا "الحميدة والأخلاق الرفيعة، المتعلقة بقضايا العفاف، والستر، والحشمة، وحفظ حياة المرأة وكل ما يخدش حياءها، حيث يبقى دور اللباس الساتر وحفظ الأجساد وصونها من الحر والبرد ومن كل ما يؤذيها نتيجة الكشف والعري، وتم وضع قواعد وآداب التي تنظّم هذا اللباس لدى كل من الرجل والمرأة على السواء".. ربما هذا لن يختلف معي أي زعيم ديني بنى مشروعه الدعوي والسياسي على المشترك القيمي، وعموما تبقى مشروعيّة اللباس من منظور المتحدثين الدينيين  حماية الأخلاق وحفظ الأعراض وصيانة المجتمع من كل صور الفساد، والعري، والانحلال هذا في اعتقادهم هو الصواب أما رأيي الخاص لا يستقيم ولا يتخذ هذا الجاهز كفيلا لصك براءة المغلفات بأنهم أشرف من كل المتحررات اللائي يلبسن بطريقتهن "ربما هو الفهم القاتل الذي لاحق ماء العينين حين ظهرت بلباسها الجديد، كما ظهرت من قبلها المدونة مايسة إنها أحد التحولات القيمية التي أصبح يعرفها المجتمع المغربي.. يتعلق الأمر بمظهر مستفز للذين يثقون في الأشكال ويعتبرونها مرادفا للوقار والحشمة والعفة؛ إنها الصورة النمطية التي تم ترسيخها بين الناس وبوسائل مختلفة، لأن للباس دور يخفي النقط السوداء في حضارة يتم شرحها على المقاس، من منطلقات تتصل بريع سياسي تارة، والحصول على السكينة الشخصية والجماعية تارة أخرى، وخاصة أن التاريخ لا يكتب بالعاطفة ولا بالحنين، وإنما بالحس النقدي الحقيقي والتراكم المعرفي والانفتاح على المنجز الإنساني الذي يسمح بتجاوز النظرة الماضوية.

وعليه؛ يمكن اعتبار اللباس كمدخل للهوية، أي النظر إلى اللباس في استعمالاته المحددة ورمزيته كفاصل بين المعتقدات والجماعات والمناطق، وبين الرجال والنساء خلال العصور، إضافة إلى ما قد ينجم عن ذلك من دلالات “تراتبية” سطرتها الدولة بخصوصه ومن تشجيعات اجتماعية بخصوص استهلاك اللباس حينما يكتسي صبغة معيارية أو ضرورية. ولهذا لا نستغرب في أن مصممي اللباس والباحثين في أشكال الموضة غالبا يقومون بدراسات، ولكل لباس له دلالته هذا في المجتمعات التي تَستهلك بوعي، وليس للمجتمعات التابعة التي تقبل بكل الأشكال ولا تمارس حصانة على جسدها في ارتداء اللباس.

- عودة إلى حادثة إنزكان:

في أعقاب توقيف شابتين مغربيَّتين بمدينة إنزكان، (يونيو 2015)، على خلفيَّة ما اعتبر لباسًا فاضحًا يخلُّ بالحياء العام، أطلق ناشطُون مغاربة عريضة إلكترونيَّة لجمع التوقيعات المؤيدة لحريَّة اللباس في المملكة، معنونين إيَّاها بـ "ارتداء تنُّورة ليس جريمة". وكنت من الموقعين على العريضة، تضامنا مع الشابتين، حيث شَكْل الاعتداء في حينه مساسًا بالحريَّات الفرديَّة وبحقوق الإنسان، فلم نجد صوت ماء العينين مساندا للضحايا ولم يتحرك الفريق البرلمان بغرفتيه في تقديم سؤال آني، ولم يتمكن رئيس الحكومة السابق من تقديم تضامن وفتح تحقيق لإنصاف السيدتين، عكس صور فرنسا وما جاورها التي كسبت الدعم من اليمين و"اليسار" ومن كل فج عميق، مع تجنيد الكتبة وجيش الانكشارية برفع شعار "كلنا ماء العينين"، و إطلاق سياسة عدائية تخوينية ضد كل من يفضح النفاق السياسي ومعرفة حقيقة الصور، حيث لم تعترف ماء العينين بالحقيقة ولم تذهب للقضاء رغم أنها لوحة بذلك؟ السياسة تقتل القيم والحقيقة أيضا وهواجس السياسيين هي الموجه والماكر الذي يحلل ويحرم، حسب المزاج والربح السياسي المطلوب. كان حدث "إنزكان" لحظة فارقة مستفزة إنه السلوك الذي يجب تأطير خلفيته وتفكيك أبعاده، وخاصة أننا أصبحنا نعيش في زمن مجتمعي فقير يُكثر من الحديث عن «عذابات القبر»، ولا يقترب من عذاب المضطهدين في الحياة. يظهر في هذه الحدود، التداخل بين السلطة والمجتمع المستبَدُّ به، ذلك أنّ التربية المتسلّطة تنتج وعياً فقيراً، يفسّر اليومي المشخص بكليّات مجرّدة، محتجاً على السلطة، وموطّداً مواقعها في آن. يدور السؤال كلّه حول الإنسان المستَلب، الذي لا يشارك في صوغ سلطته ولا في تأويل النص الديني موكلاً إلىِ «خبراء الأيمان»، حراس المعبد المقدس، إنه الفهم الذي يمنح  السلطوية إنتاج ذاتها في حقل الدراسات الدينية والحقول التي تهيمن فيها  فارضة «تأويلاً واحدا» يرى في ما عداه ضلالاً.

- الإجهاز على الإرث النهضوي :

لقد استمرت  قوى المحافظة والركود إلى «تصفية آثار الحقبة النهضوية»، معتبرة أن هزيمة النهضة، نصر لـ «الإسلام الحقيقي»، وأنّ «الإسلام النهضوي» بدعة مارقة، أساءت إلى الإسلام وجلبت الخراب إلى المسلمين. وواقع الأمر أنّ الإسلام النهضوي، المسكون بتناقضات عديدة، دافع عن إسلام يوقظ المكنون الإسلامي ويستفيد من معارف الغرب المتفوّق، هذا «البديل التراثي» الذي أرادته قوى الانغلاق أن يبقى في عموميته "الإيمانية" موجها ومقولبا للناس في القيم والذوق والفهم... وقد تفوقت في ذلك بفعل آلتها الإعلامية وإمكاناتها في الدعاية والتشويش وتخريب أسس المشروع النهضوي الذي أسسه سلامة موسى والطهطاوي وعلال الفاسي وغيرهم من المصلحين. هذا البديل الجديد قاد حرباً منهجية منظّمة ضد الحداثة الاجتماعية، في مشتقاتها المختلفة: تسفيه طه حسين إلى حدود الخيانة، تكفير الناصرية، اعتبار القومية بضاعة وافدة، تسخيف العلم والمعرفة، وصولاً إلى  نسبة الفكر النهضوي إلى مراجع غير إسلامية، لا تريد للمسلمين خيراً،... وفي مقابل منهج يجزّئ الظواهر الحديثة كي يسيطر عليها، اكتفى البديل بعمومية «الإسلام هو الحل»، التي تمحو المشخص ببلاغة مبهمة، تساوي بين تدمير الحداثة و«الصحوة الإسلامية». أرادت الصحوة محو الحقبة النهضوية، دون أن تستطيع استئناف الزمن الذي سبقها، بسبب تغيّر الأزمنة، ودون أن تجسّد مشروعها في مجتمع «مستقبلي» واضح الملامح، مقتربة من «سديم تاريخي»، يضع الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر، ويكون خارج الزمنين معاً. وهكذا تمكنت هذه القوى من تقديم فهم وحيد، له تأويل وحيد، يعيّن «الاستبداد الديني» حاكماً للحياة، مديّناً الاستبداد ومستبداً بالدين في آن، ضد كل إمكانية للتنوّع والتعدّد والاختلاف والمغايرة.

إنه الوهم الذي رسخ فكرة استعادة «التجربة المحمدية» التي هي تجربة متعالية غير قابلة للاستعادة، أو استئناف «العصر الراشدي»، الذي خلقته شروط لا تقبل التكرار. هذه الصحوة أنتجتها أنظمة متسلطة وشعوب عاجزة مستبدّ بها، نتيجة واقع الأزمة بوعي مأزوم يعمقها، دون أن يستجيب لشروط الحاضر والعمل على بناء دولة حديثة تستفيد نقدياً ومعرفيا، من منجزات الشعوب وحضارات الأمم. العودة إلى هذا التاريخ يدفعنا كي نسائل مواقف أهل "الصحوة" وبرامجهم في تحسين شروط البلاد والعباد؟ وهكذا منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى تسيير البلاد والحروب الأخلاقية تلازمه، وربما حسب تقديري البسيط قد يكون أحد المخططين لها، حتى يقدم نفسه كل مرة من موقع الضحية التي تُستهدف لمواقفها وأخلاقها، وهذا ما وقع في قصة الكوبل الحكومي مرورا بالكوبل الدعوي، وصولا إلى ما يسمى بصور ماء العينين.. لماذا الأخلاقي يلاحق قيادة هذا الحزب؟ ولماذا الفضائحي يرتبط بهواجسه الشبقية المكبوتة؟

ـ عبد الغني السلماني، كاتب وناقد