الخميس 25 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد قرطيط: خرجة وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان بشأن قضية الشهيد آيت الجيد وسؤال ربط المسؤولية بالمحاسبة

محمد قرطيط: خرجة وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان بشأن قضية الشهيد آيت الجيد وسؤال ربط المسؤولية بالمحاسبة محمد قرطيط

رد الفعل الذي صدر عن وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان بخصوص قرار قضاء التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس، القاضي بمتابعة الظنين عبد العالي حامي الدين البرلماني والقيادي في حزب الوزير، وبإحالته على المحاكمة بتهمة قتل الشهيد آيت الجيد بنعيسى، والذي عبر عنه صاحبه  بتدوينة فيسبوكية كال فيها ما لا يليق من عبارات القذف والوعيد والتجريح في حق العمل القضائي من خلال وصف المقرر القضائي المذكور بـ "الاجتهاد الأخرق"، و"الانحراف عن جادة الصواب"، و"الانقلاب في مسار العدالة"، و"الانحدار والانحراف الجسيم الموجبين للمساءلة..."، وفي حق الطرف الآخر في الخصومة وكل من يقف بجانبه واصفا اياهم "بالعدمية، و"قوى الردة والنكوص التي تجر إلى الخلف..."، يعتبر رد فعل غير مقبول ومدان بكل المقاييس، لخرقه لأبسط مقومات الديمقراطية ودولة الحق والقانون، وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلط، ومبدأ استقلال السلطة القضائية، فضلا عما يشكله من إخلال بواجبات ومسؤوليات صاحبه كمسؤول حكومي مكلف بتنفيذ سياسة الدولة في مجال حقوق الإنسان، بما يعنيه ذلك من وجوب احترام حقوق كل اطراف الخصومة والتزامه التحفظ والحياد بشأن ما يعرض من قضايا على القضاء.

وقبل بسط أهم الأسس المبدئية للممارسة الديمقراطية والمقتضيات والقواعد والمبادئ الدستورية القانونية، الوطنية منها والكونية، التي ضربت بها تدوينة الوزير عرض الحائط، لا بد من إبداء بعض الملاحظات الأولية:

الملاحظة الأولى: تنبع خطورة كلام الوزير من كون صاحبه يعتبر محاميا، ورئيسا سابقا لجمعية حقوقية، ووزيرا سابقا للعدل، وحاليا وزير دولة مكلف بحقوق الإنسان، وهو ما كان يستحيل معه تصور أن يصدر عنه موقف أرعن كهذا يخل فيه بالتزاماته وواجباته كوزير دولة، وينتهك فيه استقلالية القضاء، وهو سلوك سبق له، هو نفسه، أن وصفه عندما كان وزيرا للعدل، بإحدى الكبائر.

الملاحظة الثانية: إن رد فعل الوزير هذا لم يكن مفاجئا، بل كان متوقعا بحكم سبق حضوره شخصيا للندوة الصحفية الترافعية التي عقدها السيد حامي الدين للتعريف بموقفه في القضية والدفاع عن نفسه، وهو تصرف لا يقل خطورة عن مضمون الخرجة الحالية. الأمر الذي يمكن معه الجزم  بأن الأمر لا يتعلق برد فعل انفعالي آني، بل بموقف مبيت ومدروس، أصر فيه صاحبه على أن يتحول من مسؤول حكومي الى مسؤول حزبي يهب لنجدة أخيه في الحزب "ظالما أو مظلوما". ولا أدل على ذلك من تزعمه للجنة حزبية داخلية ستتولى متابعة القضية، وتكثيفه (إن صح ما تم تداوله من أخبار بهذا الشأن). الجهود والاتصالات والضغط من أجل إيجاد مخرج مسطري يجنب رفيقه في الحزب الاعتقال والعقاب.

الملاحظة الثالثة: بالرغم من كون ادبيات حزب وزير الدولة والكثير من مواقف هذا الأخير، تعج بما يعادي جل المبادئ الكونية لحقوق الإنسان، بدعوى انها لا تتناسب وخصوصيات مجتمعنا، الا انه لم يجد مندوحة من اللجوء الى هذه المرجعية من خلال التذرع بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبالضبط المادة 14 منه، معتقدا أنه وجد ضالته فيها بمعرض الدفاع عن موقفه وموقف صديقه في الحزب. وهذا التعامل بمكيالين مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان يضرب في الصميم مبدأ الطابع الكوني لحقوق الإنسان واعتبارها كلا لا يتجزأ. وهو سلوك غير مقبول من مسؤول من مهامه الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وحمايتها والنهوض بها، وكذا اقتراح واتخاذ التدابير الكفيلة بضمان دخول الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني حيز التنفيذ.

الملاحظة الرابعة: إنه من الصعوبة بمكان تصديق كلام الوزير بأنه تلقى خبر المتابعة والإحالة باندهاش كبير، أي بشكل مفاجئ، وذلك باعتبار أنه يفترض فيه كرجل قانون، ومحام باشر المساطر الجنائية لمدة طويلة، أن يتوقع على وجه اليقين ان القرار الذي كان سيصدر هو قرار بالمتابعة والاحالة لا قرار بعدم المتابعة، وذلك بناء على اعتبارين اثنين:

- الأول: أن موضوع سبق الفصل في القضية تم الحسم فيه بمقتضى قرار قاضي التحقيق القاضي برفض ملتمس دفاع الظنين الرامي إلى عدم قبول الشكاية المباشرة للطرف المدني بناء على سبق البث، وهو القرار الذي تم تأكيده بعد صدور قرار الغرفة الجنحية بعدم قبول طعن الظنين بالاستئناف في قرار الرفض، ومن ثمة بات من المستحيل أن يتراجع قاضي التحقيق عن قراره ويقضي بعدم المتابعة لسبق الفصل في القضية.

- الثاني: أن وجود دلائل قوية على ارتكاب الفعل موضوع الشكاية، وفي مقدمتها شهادتين حاسمتين، يجعل الشبهة (حتى لا نقول دليل الإدانة احتراما لمبدأ أصل البراءة)، قائمة بشكل قوي لا يمكن معه تصور صدور قرار بعدم المتابعة، خصوصا إذا علمنا أن المتابعة والإحالة من طرف قاضي التحقيق بصفته جهة اتهام، غير مشروطة بالضرورة بثبوت الفعل في نظره، بل بمجرد قيام الشبهة لديه.

على ضوء ذلك، ومن أجل استجلاء خطورة  ما صدر عن السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، لا بد من جرد بسيط ومختصر لأهم القواعد والمبادئ الدستورية والقانونية التي خرقتها بشكل سافر تدوينته في الموضوع:

أولا: الدستور:

- يعتبر خرق الوزير لمبدأ الفصل بين السلط، ومسه باستقلالية القضاء، ضربا "لاختيار الدولة في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون". (الفقرة الأولى من تصدير الدستور)، ومخالفة لمقتضى الفصل الأول من الدستور الذي جعل صراحة فصل السلط أساسا للنظام الدستوري المغربي، كما يعتبر خرقا للفصل 107 الذي أكد صراحة على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإخلالا بالمنع من التدخل في القضايا المعروضة على القضاء الذي أقره صراحة الفصل 109. وهنا لا بد من التذكير بأنه إذا كان الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يمكن اعتباره فصلا مرنا ونسبيا، ويبقى محكوما بمستلزمات التفاعل والتعاون بينهما المنصوص عليها في الدستور، وعلى وجه الخصوص في الفصول من 100 إلى 106 منه، فإن الفصل بين السلطة القضائية والسلطتين الأخريين، يعتبـر فصلا مطلقا وكاملا يرتب استقلالا مطلقا للقضاء عنهما. وتطبيقا لذلك، كان من البديهي، صيانة للمبدأ، منع أعضاء الحكومة من التدخل في أعمال القضاء، بل إن مجرد تناول مسطرة قضائية بالتعليق أو المناقشة العلنيين، يعتبر محظورا عليهم، ولا يرفع هذا الحظر إلا بانتهاء ولايتهم الحكومية واستئنافهم لنشاطهم المدني أو السياسي. وعلى ضوء مفهوم الفصل بين السلط المذكور، لا يمكن إلا استهجان تصرف السيد وزير الدولة المذكور، شأنه في ذلك شأن تصرف رئيس الحكومة عندما أدلى بتصريحات مماثلة لتدوينة الوزير، وأقدم على ترؤس اجتماع للأمانة العامة لحزبهما من أجل الإعداد لحملة الدفاع عن صديقهما في الحزب، وهو تصرف محظور عليه بصفته رئيسا للحكومة، والحكمة والتبصر كانتا تقتضيان منه الاختيار بين أمرين: إما الاستمرار في تحمل مهام رئاسة الحكومة، ومقابل ذلك الامتناع عن أي تعليق أو مناقشة للقضية المعروضة على القضاء، ولو داخل حزبه الذي بإمكانه أن يكلف قياديا آخر محله ليقوم مقامه، وإما تقديم استقالته من رئاسة الحكومة والالتحاق بحزبه للتفرغ لنشاطه الحزبي بما في ذلك مواكبة محاكمة صديقه في الحزب.

- لم يسبق للسيد وزير الدولة أن انتقد أو تهجم على مقرر أو إجراء قضائي بالشكل الذي فعله عندما تعلق الأمر بمناصرة صديقه ورفيقه في الحزب، وذلك بالرغم من المناسبات العديدة التي عرفت فيها شروط ومبادئ المحاكمة العادلة خروقا بالجملة، من ضرب لحقوق الدفاع، وخرق لقواعد وضمانات مسطرية جوهرية، وخرق لمبدأ المساواة أمام القانون وأمام القضاء، مما يتعين معه القول بأن سكوت السيد وزير الدولة عن كل ما ذكر منذ توله المنصب الحكومي، وتصديه بالمقابل لحالة واحدة لا لشيء إلا لتعلقها بشخص له اعتبار خاص لديه، هذا الموقف لا يمكن اعتباره إلا إخلالا بالتزام الدولة "بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب أي وضع شخصي مهما كان" المنصوص عليه في البند الثامن من التزامات الدولة المسطرة بتصدير الدستور.

- إن وزير الدولة، أخل، كقيادي حزبي، بالتزامه المنصوص عليه في الفصل السابع من الدستور والمتمثل في "تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية..." هذا الالتزام الذي يقتضي منه إعطاء القدوة في احترام مبادئ الديمقراطية وفي مقدمتها احترام سلطة القضاء وعدم التدخل في شؤونه.

- أخل وزير الدولة كذلك بالواجب الملقى على عاتقه كعضو في الحكومة ملزم "بتنفيذ السياسة الحكومية في القطاع المكلف به" (الفصل 94 من الدستور)، وبالمساهمة في تنفيذ البرنامج الحكومي وضمان تنفيذ القوانين (الفصل 89)، اللهم إلا إذا كانت الحكومة تجعل من ضمن سياستها وبرامجها في مجال حقوق الإنسان الاستهتار بالحق في الحياة، وشرعنة تدخل السلطة التنفيذية في أعمال القضاء، واعتبار مبدأ فصل السلط مجرد كلام موجه للاستهلاك الاعلامي ولا يعنيها في شيء.

ثانيا: الشرعة الدولية لحقوق الإنسان:

استنادا إلى نفس المرجعية التي اعتمد عليها السيد وزير الدولة، لا يسعنا، بدورنا، إلا أن نحتكم مع ما صدر عنه، إلى بعض مقتضيات الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهذه أهم مقتضياته التي كانت ضحية خرجة السيد وزير الدولة:

- لعل أهم حق من حقوق الإنسان هو الحق في الحياة الذي وصفه الدستور "بأول الحقوق لكل إنسان" (الفصل 20 من الدستور)، وهذا الحق كرسته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة السادسة منه، والإعلان العالمي لحقوق الانسان في المادة الثالثة. وما دام أن أول ضحية للجريمة التي سيحاكم من أجلها السيد حامي الدين ويحاول الوزير الحيلولة دون حصول ذلك، هو الحق في الحياة الذي كان يتمتع به الشهيد آيت الجيد بنعيسى قيد حياته، فقد كان يتعين على وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، وهو المسؤول عن تنفيذ سياسة الدولة، أن يبقى منسجما مع ما تحاول هذه الأخيرة تكريسه في هذا المجال، من تقديس للحق في الحياة وحمايته من خلال الدستور ومن خلال تبني مقتضيات المواثيق الدولية لحقوق الإنسان المرتبطة بالموضوع على سبيل الأولوية والسمو على القوانين الداخلية، وهو ما كان يلزمه، عوض التدخل والتشويش على مسطرة قضائية متعلقة بإزهاق روح مواطن وبالشكل الوحشي المعلوم، أن يلزم الحياد، ويترك القضية تأخذ مجراها الطبيعي والقانوني، ما دام أن إحالة صديقه على المحاكمة لا تؤدي بالضرورة إلى إدانته بقدر ما تؤدي إلى تحقيق ما ينشده أي متتبع مؤمن ومتشبع بثقافة حقوق الإنسان وبمقومات دولة الحق والقانون، ألا وهو الوصول إلى الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة إن درئا للإفلات من العقاب أو ردا للاعتبار للمتهم في القضية وهو ما تبقى الكلمة الأخيرة فيه للقضاء.

- يعتبر مبدأ المساواة من أهم ركائز أي نظام ديمقراطي، ومن اهم أوجهه الحق في المساواة أمام القضاء وأمام القانون، والمكرس في كل القوانين، الوضعية منها والسماوية، في الدستور (الفصل 6)، كما في المواثيق الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أكد على المبدأ في مطلع الفقرة الأولى من المادة 14 نفسها التي لوح بها الوزير في تدوينته.

ولا شك في أن تدخل وزير الدولة كجهة نافذة في الدولة، وخلفه حزبه الذي يقود الحكومة، في قضية جنائية معروضة على القضاء لفائدة طرف ضد طرف آخر، يعتبر خرقا لمبدأ المساواة أمام القضاء، وضربا لمبدأ المساواة في الأسلحة، بين أطراف الخصومة الجنائية (حسب تعبير وثائق المؤتمر الدولي الثاني عشر لقانون العقوبات، هامبورغ 1979).

- من أهم ما جاء في المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية المعتمدة من طرف مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين لسنة 1985: "تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية" (البند 1). "تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها ... دون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة كانت أو غير مباشرة، ومن أي جهة ولأي سبب". (البند 2). و"لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها في الإجراءات القضائية..." (البند 04)؛ وهي كلها مبادئ تسمو في التطبيق على قوانيننا الداخلية حسب صريح الدستور. ورغم ذلك تنكر لها المسؤول الحكومي المذكور، عندما وجه سهامه إلى جهة قضائية وإلى المقرر القضائي الذي صدر عنها في قضية مازالت في بدايتها، في تصرف من شأنه، باعتبار مركز صاحبه وموقع الحزب الذي ينتمي إليه، التأثير على مسار المحاكمة، الشيء الذي يعرضه للمساءلة .

ثالثا: النظام الأساسي للقضاة:

يشكل تصرف السيد وزير الدولة تهديدا وانتهاكا صارخا للحماية التي ألزم المشرع الدولة بتوفيرها القضاة، وهدرا لما يبدل في هذا الصدد من مجهودات، تطبيقا للمادة 39 من نظامهم الأساسي التي جاء فيها: "يتمتع القضاة بحماية الدولة وفق مقتضيات القانون الجنائي والقوانين الخاصة الجاري بها العمل، مما قد يتعرضون له من تهديدات أو تهجمات أو إهانات أو سب أو قذف، وجميع الاعتداءات أي كانت طبيعتها أثناء مباشرة مهامهم أو بسبب القيام بها". وأي قارئ للتدوينة لا يمكن ان يجد صعوبة في الوقوف على أوجه التهديد والتهجم والاهانة والقذف في العبارات المستعملة في التدوينة.

رابعا: قانون مهنة المحاماة:

من المعلوم أن المحامي الذي تسند إليه مهمة عضو في الحكومة، يتوقف عن ممارسة المهنة طيلة مدة توليه المهمة، إلا أنه يبقى مقيدا في جدول الهيئة التي ينتمي إليها حسب أقدميته. (المادة 10 من قانون المحاماة)، وهو ما يعني أن صفة المحامي تبقى ملازمة له بما يعنيه ذلك من استمرار ارتباطه بقسم المهنة الذي أداه عند ولوجها طبقا للمادة 12 من نفس القانون، والتزامه تبعا لذلك بالتقيد بمقتضياته ومن ضمنها "ألا يحيد عن الاحترام الواجب للسلطات القضائية..." و"ألا يبوح أو ينشر ما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة" (المادة 12).

وبناء على ذلك، يكون السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان بصفته محاميا قد نقض قسم المهنة، لإخلاله بواجب احترام السلطات القضائية باستعمال عبارات كلها قذف وتجريح، ونشره لتدوينة ذات مضامين مخالفة للكثير من القوانين والأنظمة، كما هو مبين في هذه الورقة، هذا فضلا عن خرق اعراف المهنة والنظام الداخلي للهيئة التي هو مسجل بجدولها، وهو ما يمكن أن يرتب آثارا قانونية لا يمكن  أن يحسد عليها المعني بالأمر.

خامسا: المرسوم رقم 2.17.190 المتعلق باختصاصات وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان:

تنص المادة الأولى من المرسوم على أنه من بين الاختصاصات المخولة لوزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، إعداد وتنفيذ السياسة الحكومية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وحمايتها والنهوض بها، وكذا اقتراح واتخاذ التدابير الكفيلة بضمان دخول الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني حيز التنفيذ. ولا يمكن أن يختلف اثنان في كون ما صدر عن الوزير من خرق لحقوق الإنسان عوض حمايتها، ودوس لمبادئها عوض النهوض بها، واستهتار بمبادئ المواثيق الدولية لحقوق الإنسان عوض تفعيلها والعمل على تنفيذها، بشكل يورط كل مكونات الحكومة تطبيقا لمبدأ التضامن الحكومي(الفصل 93 من الدستور)، كل ذلك يعتبر إخلالا خطيرا بالواجب يوجب المساءلة.

على ضوء كل ما ذكر، إذن، لا يمكن لأي عاقل إلا أن يتساءل كيف سمح السيد وزير الدولة لنفسه بتصرف أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه تنطبق عليه، وعن جدارة، كل الأوصاف التي تفوه بها في حق مؤسسة القضاء، وفي حق أسرة الشهيد آيت الجيد بنعيسى ورفاقه وأصدقائه، وكل القوى الحقوقية التي لا تنشد سوى الوقوف على الحقيقة ووضع حد لإفلات الجناة من العقاب عند الاقتضاء، هذا فضلا عن كونه تصرفا تطاله عدة مقتضيات زجرية باعتبار أن التدوينة التي صدرت عنه، تعتبر جسما لعدة أفعال جرمية مكتملة الأركان، أهمها:

1- الجريمة المنصوص عليها في الفصل 266 من القانون الجنائي الذي يجرم "الأفعال أو الأقوال أو الكتابات العلنية التي يقصد منها التأثير على قرارات رجال القضاء قبل صدور الحكم غير القابل للطعن في قضية ما". (الفقرة الأولى)، وكذا الأفعال أو الأقوال أو الكتابات التي يقصد منها تحقير المقررات القضائية ويكون من شأنها المساس بسلطة القضاء واستقلاله"، ولا شك أن عبارات "الاجتهاد الأخرق" و"الانقلاب في مسار العدالة" و"الانحراف الجسيم عن جادة الصواب الموجب للمساءلة"، التي وصف بها السيد وزير الدولة المقرر القضائي، تعتبر تحقيرا لهذا الأخير، من شأنه المساس بسلطة القضاء واستقلاله، من خلاه الأثر السلبي الذي قد يكون لها على القاضي مصدر القرار وعلى عمله القضائي مستقبلا، وكذلك على باقي القضاة وعلى وجه الخصوص القضاة الذين سينظرون في القضية في مراحلها المقبلة.

2- الجريمة المنصوص عليها في الفصل 265 من القانون الجنائي المجرم لفعل إهانة هيئة منظمة، وهي مؤسسة القضاء المعنية كذلك بالأوصاف الواردة بالتدوينة.

3- الجريمة المنصوص عليها في الفصل 263 من القانون الجنائي، الذي يعاقب على إهانة القضاة أثناء قيامهم بوظائفهم، أو بسبب قيامهم بها.

4- جريمة القذف المنصوص عليها وعلى عقوبتها في المادة 83 والمادة 84 من قانون الصحافة والنشر، باعتبار أن تدوينة الوزير تضمنت ادعاء واقعة انحراف العمل القضائي الجسيم عن جادة الصواب، وواقعة الانقلاب في مسار العدالة، والعدمية، والردة، والنكوص، ونسبتها إلى قاضي التحقيق بفاس، ومن خلاله إلى مؤسسة القضاء كهيئة، وهو ما يمس بشرفهما واعتبارهما معا.

5- الجريمة المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من المادة 72 من قانون الصحافة والنشر التي "تعاقب عن كل إهانة ترتكب بواسطة المكتوبات أو بواسطة أية وسيلة تستعمل دعامة إلكترونية، في حق رجال ونساء القضاء... أثناء قيامهم بمهامهم، أو في حق هيئة منظمة".

6- الجريمة المنصوص عليها في الفقرة ما قبل الأخيرة من نفس القانون التي تجرم التحريض المباشر على الكراهية والتمييز، وهو عين ما سقط فيه السيد وزير الدولة بكيله بمكيالين في مجال تعامله مع قضايا الرأي العام المعروضة على القضاء، وذلك بانتفاضته ضد مقرر قضائي في قضية صديقه ورفيقه بدعوى الانتصار للمشروعية، مقابل سكوته المطبق والمزمن عما عرفته وتعرفه الكثير من المحاكمات من شوائب ونقائص وتجاوزات، وتوفيره "الحماية والدعم" كمسؤول لمواطن بعينه وحرمان اخرين من هذا الدعم والحماية، الشهيد الذي يعتبر مساهمة في بث بذور التمييز والكراهية ويشكل الركن المادي للجريمة المذكورة.

7- وبنفس المنطق، تعتبر تدوينة السيد وزير الدولة كذلك، ركنا ماديا قائم الأركان لجريمة التمييز المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الفصلين 1.431 و2.431 من القانون الجنائي، إذ حتى لو افترضنا أنه من حق المسؤول الحكومي بصفته مكلفا بحقوق الإنسان، التدخل في محاكمة قضائية بتقديم الدعم  لأحد أطرافها من أجل تمكينهم من ممارسة حقوق دفاعهم على الوجه الأكمل، أو حمايتهم في أي خرق للضمانات الممنوحة لهم قانونا، أو تدارك ما يمكن أن يحصل من تجاوزات تمس بالمحاكمة العادلة، فإن هذا الدعم يجب أن يشمل جميع المواطنين الذين يقدر لهم أن يكونوا أطرافا في خصومة قضائية جنائية، وذلك على حد سواء، وبدون أي تمييز كيفما كان سببه.

ووزير الدولة بدعمه العلني والكامل لصديقه في الحزب بصفته طرفا في الخصومة الجنائية كمتهم، لم يخصص نفس المعاملة لحقوق الطرف الآخر عائلة الشهيد آيت الجيد بنعيسى وذوي حقوقه بما فيهم حقهم في معرفة الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب عند الاقتضاء، شأنها في ذلك شأن رفاق وأصدقاء الشهيد، والفعاليات الحقوقية (هيئات وأشخاص)، وجل شرائح المجتمع المتتبعة للقضية، والتواقة لمعرفة الحقيقة بشأن محطة من محطات الماضي الأليم للحركة الطلابية ببلادنا، كما أنه في الوقت الذي هب لنصرة أخيه ظالما أو مظلوما، لم نسمع له سابقا أي صوت، ولو بنسبة جزء من المائة، مما ضمنه بتدوينته، حيال ما عرفته وتعرفه الكثير من القضايا أمام القضاء التي استأثرت باهتمام الرأي العام من ضرب لمقومات المحاكمة العادلة وهدر لحقوق أطراف فيها، وخرق لأبسط قواعد القانون على مستوى الشكل والجوهر على حد سواء.

وفي هذا الصدد ومن باب التذكير والمساءلة، نتساءل:

       لماذا لم نسمع صوت السيد الوزير بمناسبة أحداث الحسيمة، وما تم تداوله بشان محاكمة المعتقلين على خلفيتها من خروق لمسطرة إحالة قضية البعض منهم من قضاء الحسيمة إلى قضاء الدار البيضاء، وما اثاره دفاع المتهمين من معاملة لاإنسانية وحاطة من الكرامة بالنسبة لبعضهم ، ومن خرق لكثير من المقتضيات المسطرية والموضوعية في سائر المراحل ، وكذا ما اثاره، بالمقابل، دفاع الطرف المدني والنيابة العامة من اعتداء على حريات المواطنين وعناصر الامن وسلامتهم الجسدية؟

      لماذا لم يحرك السيد الوزير ساكنا عندما تم اقتياد اثنين من خيرة أطر وخبراء الاقتصاد والمالية ببلادنا إلى قفص الاتهام بالمحكمة الابتدائية بالرباط، بتهمة ما أنزل الله والقانون بها من سلطان، وهي افشاء السر المهني بدعوى تمكينهم لجريدة ورقية من معلومات تتعلق بعلاوات يكون قد حصل عليها كل من وزير المالية والخازن العام، وهو ما لم يقم عليه أي دليل، ولا تنطبق عليه إطلاقا فصول القانون الجنائي المتعلقة بالموضوع، وهي القضية التي كان وزير الدولة، بصفته وزيرا للعدل آنذاك، يعلم جيدا تفاصيلها وملابساتها والخروق التي ارتكبت فيها، بحكم تتبعه لها أولا بأول، بما في ذلك استمرار توقيف أحد المتهمين عن العمل وحرمانه من مرتبه إلى حد الآن رغم صدور مقرر قضائي بإنهاء هاته الوضعية؟

      أين اختفت غيرة السيد الوزير على المحاكمة العادلة وانتصاره للقانون عندما تم سحل القاضي الأستاذ محمد نجيب البقاش جنائيا وتأديبيا على مرآى ومسمع منه، بل وتحت إشرافه، في محاكمة عرفت من الفظائع ما يندى له جبين أي غيور على سمعة ومصداقية القضاء، من ضمنها تلبيس جريمة الارتشاء للقاضي الشاب، لينتهي الأمر بإعدام مهني له سهر على إجراءاته السيد الوزير، وتلته إدانة جنائية كانت نتيجة حتمية "للإدانة" التأديبية التي اصر السيد الوزير، بصفته وزيرا للعدل تراس المجلس التأديبي، على أن يتم البت فيها بسرعة، بالرغم من الأصوات التي ارتفعت، ومن ضمنها ملتمسات الدفاع، تنادي بإرجاء البت في المتابعة التأديبية إلى حين بت المحكمة الزجرية في المتابعة الجنائية، وهو ما كان سيوفر للقاضي المتابع فرصة الاستفادة من ضمانة الطعن في المقرر التأديبي التي يوفرها النظام الأساسي للقضاة الذي كان على الأبواب، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تجنبا لأي تأثير سلبي محتمل للمقرر التأديبي على عمل الهيئة التي كانت تنظر في المتابعة الجنائية، خصوصا مع دخول رئيس الحكومة صديق الوزير بالحزب، على الخط، بالبرلمان، واحتجاجه على إطلاق سراح القاضي، واعتباره ذلك "عرقلة لورش محاربة الفساد الذي يقوده حزبه"... !!؟

      ما الذي غل يد السيد الوزير بصفته وزيرا للعدل وقتها، ومنعه من التدخل لوضع حد لمأساة القاضي الأستاذ محمد الهيني في حينها وقبل تدهور الأمور بشكل اعطى الانطباع لدى الرأي العام بأن الوزير أصبح طرفا خصما للقاضي، خصوصا لما أصر على التأكيد عدة مرات على أن هذا الأخير مسؤول رفقة بعض أصدقائه عما حصل له، فيما يشبه لغة التشفي والانتقام، في الوقت الذي كان يجب عليه التراجع عن الخطأ عوض التمادي فيه، انقاذا للمصير المهني لقاض لم يثبت ارتكابه لما يبرر تصفيته مهنيا؟

      كيف جف قلم السيد الوزير ولم نقرأ له ولو مجرد تعليق على الحكم بالإدانة الصادر في حق زميلين، أحدهما نقيب سابق، وما أثاره من ردود فعل وسط أسرة الدفاع، في قضية تفيد المعطيات المتداولة بشأنها أنهما لم يرتكبا أية مخالفة للقانون، وأن ما صرحوا به لا يتجاوز حدود ما يدخل في حرية التعبير المكفولة للمحامي بشأن القضايا التي يباشرها أو يواكبها، وحصانة واستقلال الدفاع التي يتمتع بها؟

      ما الذي جعل السيد الوزير، عوض الانتصار لحرية التعبير والرأي وللقانون في قضية محمد أيلال صاحب كتاب "صحيح البخاري، نهاية أسطورة" والحكم الاستعجالي الغريب الذي صدر بحجز الكتاب من السوق، عوض ذلك، أدلى بتصريحات تهجم فيها على الكتاب وعلى صاحبه، بمبرر الدفاع عن كتاب صحيح البخاري، بل ذهب أكثر من ذلك عندما اعتبر أن الحكم الصادر في حق كتاب أيلال حكم سليم من الناحية القانونية؛ والحال أنه حكم يعج بالخروق إن على مستوى سوء تطبيق قواعد المسطرة الاستعجالية، أو على مستوى السند القانوني لدعوى الحجز على الكتاب، وكذا النصوص القانونية المعتمدة في الحكم؟

      وأخيرا، لماذا لم تحض قضية الصحفي توفيق بوعشرين بأدنى حيز من الفضاء الفيسبوكي للسيد وزير الدولة، ولو بإشارة بسيطة تترجم اهتمام هذا الأخير بما يروج حولها من أخبار عن إثارة هذا الصحفي ودفاعه لخروق جوهرية للقانون على مستوى البحث والمتابعة والإحالة والمحاكمة، وعن تظلم المطالبات بالحق المدني، بالمقابل، من انتهاكات لحقوقهن؟

الأمر يتعلق إذن بفضيحة سياسية وحقوقية بكل المقاييس، تستدعي المساءلة تفعيلا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتأسيا على الأقل بما يجري في البلدان العريقة في الممارسة الديمقراطية. وفي هذا الصدد يجدر التذكير بقضيتين اثنتين مشابهتين لقضية السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان:

- الأولى: تتعلق بخرجة إعلامية لنيكولا ساركوزي سنة 2011، وكان فيها رئيسا للجمهورية، تحدث فيها عما أسماه "باختلالات جهاز العدالة"، وذلك في تعليقه على قضية جنائية تتعلق بالاختطاف والقتل، وهو ما أثار زوبعة من الاحتجاجات على تدخل رئيس الجمهورية في شؤون القضاء، انضم إليها القضاة بإعلان توقفهم عن العمل أسبوعا كاملا، مع العلم أن ما وصف به ساركوزي العمل القضائي لا يصل درجة التهجم الذي طبع تدوينة وزير الدولة عندنا، ومع العلم أيضا أن ما نعاه ساركوزي على العمل القضائي، صحيح في جزء منه، وهو عبارة إهمال وتساهل على مستوى قضاء تطبيق العقوبات والمؤسسة السجنية، أدى إلى غضب الرئيس وذلك دفاعا عن مبدأ عدم الإفلات من العقاب، لا العكس كما هو الشأن بما نحن بصدده، ومع  ذلك تراجع الرئيس فيما يشبه الاعتذار..

- الثانية: حصلت سنة 2013 عندما انتفض البرلماني هنري كاينو، الذي سبق له شغل منصب مستشار خاص لساركوزي عندما كان رئيسا للجمهورية، احتجاجا على فتح تحقيق قضائي في حق هذا الأخير في القضية التي عرفت "بقضية بيتنكور"، وأدلى بتصريح اعتبر فيه أن قرار فتح التحقيق في حق ساركوزي فيه "إهانة لساركوزي"، و"إهانة للمؤسسات،" و"إهانة للعدالة". لتتم متابعته من أجل إهانة القضاء وتحقير مقرر قضائي طبقا للفصلين 434.24 و434.25 من القانون الجنائي الفرنسي المقابلين لفقرتي الفصل 266 من القانون الجنائي المغربي.

- الأستاذ محمد قرطيط، محامي وحقوقي