الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

عادل الزبيري: يا ترى من هؤلاء؟

عادل الزبيري: يا ترى من هؤلاء؟ عادل الزبيري

غادرت مقر البرلمان المغربي في الرباط، في صباح يوم خريفي جديد، من أول أيام الأسبوع، وفق الحساب المغربي.

شعرت بحاجتي لشرب قهوة صباحية، ليس من عادتي الاستيقاظ باكرا صباحا، ولكنني ألتزم بالضروريات المهنية.

بدأت أنتبه لتوافد أفواج بشرية من التلاميذ، يتوافدون عكس اتجاه السير، يضطرون السيارات للتوقف، ويهرولون بدون اهتداء، ويتدافعون فيما بينهم، على اتساع الشارع.

تذكرت أن التلاميذ يحتجون منذ أيام، بشكل متفرق، في مدن مغربية متعددة، على الساعة القانونية الجديدة مغربيا، بعد قرار حكومي يقضي باعتماد غير مسبوق، في تاريخ المغرب، للساعة الصيفية طيلة السنة.

تحركت من مكاني، في اتجاه مقر البرلمان، كانت الساحة غاصة عن آخرها بالتلاميذ، الشعارات ممزقة، وأمواج تركض في كل اتجاه، وأخرى تصل فيما آخرون يغادرون.

تنقلت مع المصور التلفزيوني الذي يرافقني، كلما وضعنا الكاميرا يتقافز التلاميذ قبالة العدسة، علمت أن المهمة ستكون عسيرة في هذا الصباح، تعاملت مع الموقف برفقة فريق العمل، بصبر جميل.

قررت الانسحاب اختياريا واستباقيا، تجنبا لأي انحرافات يقع فيها الاحتجاج التلاميذي، بعد مشاهد صادمة لصعود تلاميذ فوق مصابيح كهربائية خضراء اللون، مقابلة لبناية مقر البرلمان، وتكسير أعمدة حديدية، ورمي قنينات الماء في الهواء، ورفع شعار صدمني يشتم والدة سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية.

تأكدت أن هذه ليست حركة احتجاجية تلاميذية، ولكنها صبيحة نفذ فيها التلاميذ، بتنسيق مسبق هروبا جماعيا من القسم، وسط غياب لتحمل المسؤولية من أولياء الأمور وإدارات المؤسسات التعليمية.

يجب أن نعترف أن استقالة جماعية وقعها الجميع وينفذها الجميع، من الوالدين إلى الأسرة الصغيرة والكبيرة والجيران والمدرسة والإعلام؛ انهارت صمامات الأمان التي كان التلاميذ يخافونها.

وأما الأستاذ في القسم، فأصبح يخاف من الاعتداءات الجسدية واللفظية من التلاميذ.

والأسرة التعليمية تشتكي من محدودية الدخل المالي الشهري، وارتفاع مصاريف الحياة، وغياب أي استجابة حكومية لنضالات النقابات التعليمية.

راقب رجال الشرطة باللون الأزرق، وعناصر القوات المساعدة باللون الأخضر، المشهد الاحتجاجي التلاميذي الهائج، فيما حمى تشكيل أمني بوابة مقر المؤسسة التشريعية المغربية.

قصدت عمود الكهرباء قرب بائع الجرائد، في شارع محمد الخامس، اتكأت لأن ركبتي آلمتني، شعرت بحرقة من الحسرة تنتابني، وبحمام ثلج بارد ينزل علي؛ صدمتي كانت قوية.

تأكدت أن المدرسة المغربية أنتجت جيلا تائها، يمارس البلطجة في الشارع العام، يتحرش بكل سيدة تسوق سيارة، يهجمون بشكل جماعي على مقاهي، يطلبون الماء واستعمال دورة المياه.

صدمني جيل لم يخضع للأسف الشديد لأي تنشئة اجتماعية؛ غرقت المدرسة المغربية في التعليم بمنطق التلقين، وغادرت التربية أسوار المؤسسات التعليمية.

ورافق الاحتجاج راكبون للدراجات النارية، أوقفوها كيفما شاء لهم المزاج، وتابعوا المشهد الاحتجاجي العابث بالعشب في الأرض، وبحمام الساحة.

كنت واقفا راصدا الاحتجاج مستعدا لفعل أي شيء، لغياب التأطير.

فمن ناحية أولى، يبدو الاحتجاج شبابيا من التلاميذ؛ ما يعكس أن المجتمع المغربي حي بنبضه الجديد، ولكن في نصف الكأس الفارغ يظهر جيل يريد إسقاط الساعة القانونية بأي شعار، ولو بكلام سوقي وقاسي، ويريد عطلة ممطة لأيام بدعوى الساعة.

في تقديري، هذا الجيل الذي عرانا جميعا، نهارا جهارا، في شارع محمد الخامس، في قلب العاصمة المغربية، نتاج لتراكم سياسات حكومية فاشلة تعليميا.

وهذا الجيل عنوان بارز لمغرب يحتاج لدخول عاجل جدا، بتعليمه لغرفة العناية المركزة، يافعون مندفعون ومهرولون ومتهورون؛ ولهم قابلية جماعية لركوب أي موجة يجدونها أمامهم.

فهنالك غارق كبير بين الاحتجاج السلمي وبين إثارة الفوضى، في يوم الاثنين، وضع شارع محمد الخامس يديه على قلبه قلقا وخوفا.

وهذا الجيل يعكس أيضا انهيارا ثقافيا مغربيا، في ظل غياب مشروع ثقافي، يدخل المدارس بنعومة لنشر القراءة والكتابة وسط التلاميذ، بأسلوب جديد وقريب من جيل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

فغالبية المحتجين من التلاميذ بمظهر أنيق، وبقصات شعر مع مرطبات للشعر، وبهواتف محمولة ذكية، توثق للمشاهد التي انغمسوا فيها جماعات.

فيما غالبية وجوه الفتيات، تظهر عليها علامات واضحة للتحرر الزائد، طبقات من مساحيق التجميل وأحمر الشفاه الجريء جدا.

وفي نفس المشهد الاحتجاجي، مشاركون بدون حقائب ظهر ما يعني أنهم من المرجح ليسوا تلاميذ، ويافعين على وجوههم علامات الفقر، ويلبسون نعلا بلاستيكيا في يوم خريفي بارد.

وفي حقيقة الأمر، هذا جيل المسلسلات التركية المنقولة للعامية المغربية، ولبرامج الصباح في إذاعات القطاع الخاص، التي تشتغل على الإثارة، عوضا عن الإنارة، ولكل الساعات الضائعة، في تقديري، في برامج تحسين الجمال والمظهر وقصص الحب الفاشلة وروشيتات النجاح النفسي والسلوكي، في البث الإذاعي المسائي.

فبعدما أصبح الفشل المدرسي بنيويا في المؤسسة التعليمية المغربية، قطاع خاص وعام/ حكومي، أكمل الإعلام نسف كل شيء، ذي قيمة وسط اليافعين المغاربة، عبر مسلسل من التتفيه المتواصل.

فسلط الإعلام أضواءه على كل التفاهات، وهمش الكفاءات، وصعد الرداءات، وغيب الثقافات.

ففي تقديري، التلفزيون مدرسة ثالثة، وأم ثانية، كان يمكنها أن تساعد في التأطير الاجتماعي للصاعدين من للأجيال.

وعندما جاء زمن مواقع التواصل الاجتماعي، اكتملت البهية، واستهلك الجميع بجرعات زائدة، الإشاعات والأخبار الكاذبة، وسوق المنتسبين الجدد للإعلام لكل رداءة ولكل شطحة ولكل صرخة ولكل جريمة ولكل نائبة.

فحاول الإعلام التقليدي أن يواكب السير، فسقط في التقليد الفاشل، فركب قطار التفاهة، عوضا أن يمارس دوره الترافعي، لإعلام بمضمون هادف، عبر السباحة الصعبة ضد الموجة الجارفة.

ففي مرحلة ما بعد العولمة، ضاعت الخصوصية الثقافية الإعلامية المغربية، وغرق الإعلام الحكومي في نقاشات بلغة الخشب البالي، وزادت جرعات من برامج تلفزيون الواقع، وانفجرت يوميا حلقات من دراما مستوردة من المكسيك وتركيا، فيما غرقت الدراما المغربية في الحموضة.

أعترف أن وجهنا في مرآة هذا الجيل تعرى، وظهر فاشلا جدا، وفي حاجة لتدخل جراحي مستعجل جدا.