الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

الصادق العثماني:الخطاب الديني التكفيري وحتمية التجديد

الصادق العثماني:الخطاب الديني التكفيري وحتمية التجديد الصادق العثماني
صحيح أن أصحاب فتاوى التكفير لم يقتلوا أحدا بأيديهم، كما أن المحرضين على الكراهية والقتل والمشعلين للفتن والثورات في البرامج الدينية والخطب المنبرية والقنوات الفضائية، يقولون نفس الشيء لم يقتلوا ولم يفجروا ولم يذبحوا أحدا من خلق الله بأيديهم، حتى ابليس لم يقتل أحد بيده منذ أن خلقه الله تعالى، ولكنه سبب في كل القتل الذي يحدث فى العالم، وكذلك ‎أصحاب فتاوى التكفير والمحرضين والمشعلين للفتن هم سبب القتل الذي يحدث في الوطن العربي والإسلامي منذ بروز ما يسمى ب "الربيع العربي" إلى اليوم، فالأنهار من الدماء التي سالت ومازالت ستسيل -إذا لم يعالج الأمر- هي في رقبة وذمة هؤلاء يوم الحساب والعرض على الله تعالى؛ لهذا أخطر شيء على الشباب المسلم اليوم هو التقليد الأعمى لبعض الشيوخ والدعاة وكذلك القراءة الحرفية والنقل الحرفي لما سطر في كتب التراث الإسلامي من شروحات وفتاوى وأحكام دون استحضار معطيات الواقع والزمان والمكان والسياق التاريخي، يقول الشيخ الدكتور التهامي الحراق في هذا المضمار: "هناك مشكل خطير في التعامل مع النصوص الوحيانية في سياقنا المعاصر، مشكل القراءة الحرفية الظاهرية لهذه النصوص، بحيث تلغي هذه القراءة سياق تلك النصوص اللساني والتاريخي والثقافي والمعرفي والانتربولوجي…. وهو ما يجعل تلك القراءة تتوهم أنها تستخلص "مراد الله" من تلك النصوص، دون أن تفطن إلى أنها "تحرف الكلم عن مواضعه" عن غير وعي غالبا؛ لكونها لم تستوعب معرفيا الكيفية التي يتشكل بها المعنى انطلاقا من نص ما. ووهم استخلاص "مراد الله"في هذه القراءة هو الذي يغذي تعصبها وتشددها..". تفطن الإمام علي رضي عنه مبكرا لمعضلة فهم النصوص القرآنية وخطورة اتباع الجهلة في الدين الذين لم يستضيئوا بنور العلم، عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: " أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: " يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ"، ويزداد الأمر خطورة على الشباب المسلم هو عندما يكون هؤلاء المشايخ والدعاة الذين اتبعوهم وقلدوهم واقتربوا منهم شبرا بشبر وذراعا بذراع من تيارات التبديع والتفسيق والتكفير والتفجير؛ لهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى كان يقول: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.." ، فيا أيها الشيخ التكفيري إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك: "لم أبحت دم فلان بعدما كفرته؟" فما حجتك؟ إن قُلتَ: "قلدت إمامي وشيخي وأستاذي في إباحة دماء المسلمين، يقول لك -الله عز وجل-: "أفأنا أوجبت عليك تقليد إمامك؟!". ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء". وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "لا يزال المرء في فسحة من دينه، ما لم يتند بدم حرام" .
هنا ينبغي أن يعلم هؤلاء -أي شيوخ ودعاة التكفير وحفاظ الفتاوى- أن النصوص الشرعية محدودة، ولا يمكن أن تفي بمقاصد الناس في حياتهم المتطورة والمتجددة، لهذا من يُفتي الناس معتمدًا على النقل وحده من كتب التراث وعلى وجه التحديد كتب الفتاوى الدينية فقد ضلَّ وأضلَّ جماهير المسلمين معه، وحرمهم من نعمة الدين الإسلامي وجوهره وروحه وهو إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، ومواكبة ظروفهم المجتمعية ومقتضيات العصر الذي يعيشون فيه، فالنصوص الدينية لم تكن يومًا مجرد حروفٍ حديدية جامدةٍ بلا معنى ولا روح تحويها الصدور وتحفظها الأوراق وتخطها الأقلام، لتبقى كالأحجار يثقلُ بحملها كاهلنا؛ وإلا سنكون بذلك من ينطبق عليهم قول الله تعالى: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " ، ومما أتعجب منه شخصيا في هذه الأيام وهو أن هناك ترسانة عسكرية من الفقهاء والمشايخ والدعاة في وطننا العربي والإسلامي مرابطة على حصون هذا التراث الإسلامي الكلاسكي ولا تسمح بتاتا لأي فقيه أو باحث أو مفكر أو مجتهد النبش فيه أو محاولة تجديده أو انتقاده أوغربلته أو تصحيحه أو النفخ فيه من جديد روح الأصالة والمعاصرة -كما يفعله سماحة شيخنا عبد الله بن بيه مشكورا- وكل من يحاول اختراق هذا الحصن؛ أي حصن التراث قوبل بشواظ من نار التكفير والتشهير والطعن واللعن والقائمة تطول في هذا الباب، مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم -وهو ما زال على قيد الحياة- كان يحثَّ أصحابه رضي الله عنهم جميعا على الاجتهاد والتجديد واستعمال العقل والتفكير والنظر والتدبر، وإذا أردنا تعبيرًا أكثر دقة، نقول: إنه صلى الله عليه وسلم دفعهم إلى الاجتهاد دفعا، واعتبره من ضروريات الحياة ومستجدات العصر، ومن ذلك ما رواه الحارث بن عمرو، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: أقضي بما قضى به رسول الله، قال: فإن لم تجد فيما قضى به رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي الله ورسوله" ، وهذا الحديث -في الحقيقة- يؤكد لنا ومما لا يدع مجالا للشك أن الصحابة الكرام قد اجتهدوا في الكثير من الأحكام في العهد النبوي، ولم يمنعهم كون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين أظهرهم من أن يطبقوا فريضة الاجتهاد عمليًّا، ولو صح ما يروّجه البعض من أنهم -رضي الله عنهم- لم يجتهدوا مطلقًا في حياة النبي، لكان الأولى حين سأل النبي: فإن لم تجد في كتاب الله وفيما قضى به رسول الله؟ أن يجيب الصحابي معاذ بن جبل، قائلًا: "أعود إليك يا رسول الله، لتقضي في الأمر، ثم أذهب إلى أهل اليمن لأنقل إليهم قضاءك" ، ولكنه رضي الله عنه قال دون تردد: "أجتهد رأيي ولا آلو" ؛ أي لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع فيه.. وهنا يُداهمنا سؤال غاية في الأهمية: ما فائدة اجتهاد الصحابة ورسول الله بينهم والوحي يأتيه من السماء؟ ألم يكن الأولى بهم كلما داهمتهم الخطوب وحاصرتهم النوازل أن يتركوا الأمر برمته للنبي، صلى الله عليه وسلم؟ وتتلخص الإجابة في أن اجتهادهم -رضي الله عنهم- كان ثمرة طبيعية لتلك البذرة التي زرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوسهم، وهي إعلاء قيمة العقل؛ فقد ربّى النبي أصحابه على الاجتهاد، وحثهم على بذل الوسع في إدراك الحكم الشرعي في كل نازلة تنزل بالمجتمع الإسلامي، دون خوف من عقاب شرعي إذا جانب المجتهد الصواب في الرأي، وفي هذا السياق يقول صلى الله عليه وسلم: "من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" ، وفي رواية أخرى: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر" كما نهى صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام عن تعطيل الاجتهاد أو تركه، وغلّظ الوعيد لمن أراد الركون إلى التقليد، وذلك حين قال صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا" .
فالمدرسة النبوية المحمدية كانت تعلم طلبتها وتلامذتها على التدبر والتفكر والإبداع والتجديد والاجتهاد؛ بل شرعنته بنصوص الوحي والسنة ويتمثل ذلك فيما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" ، ولو كان الخطاب الديني لا يحتاج إلى تجديد (كما يزعم البعض) لما أكد هذا الحديث النبوي على بعثة المجدد؛ أي أن التجديد سنة إلهية، وفريضة دينية، لا يملك بشر تعطيله، أو عدم الاعتراف بمشروعيته، ويتضح مما سبق وما هو مدون في كتب الفقه الإسلامي أن الاجتهاد هو الطريق الأوحد لتجديد الخطاب الديني، وأنه أصل من أصول الإسلام، وفرض شُرِعَ بنص قرآني، وقول وإقرار نبويَّان، وتطبيق عملي من الصحابة الكرام، هنا يتجلى عقم وفساد أصحاب مذهب "الرافضون للتجديد" وأصحاب التقليد الأعمى الذين يعتمدون على بعض المقولات مثل: "ليس في الإمكانِ أبدعُ ممَّا كانَ" "ولم يَتركِ الأوَّلُ للآخِر شيئًا"، و "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" هدفها تغييب العقل الإسلامي، وإبقاء الشعوب ساكنة جامدة متخلفة عاجزة عن مواكبة مستحدثات الأمور ومستجدات العصر وتقلباته، بل ويزداد الأمر خطورة مع مذهب التقليد والتعطيل للاجتهاد والتجديد وهو ما يؤدي إلى جمود الفكر الديني، وترك المسلمين ودولهم فريسة للجهل والخرافات والشعوذة والدجل؛ لهذا قال بعض أهل العلم من يُفتي تقليدًا أو نقلًا عن السابقين، دون مراعاة أحوال الناس ومستجدات عصرهم، فقد ضلَّ وأضلَّ وجنى على الدين، وهذا ما أكده ابن قيم الجوزية، بقوله: "من أفتى النَّاس بمجرَّدِ المنُّقولِ من الكتبِ على اختلافِ عرفهم وعوائدِهم وأزمنتِهم وأمكنتِهم وأحوالِهم وقرائنِ أحوالِهم؛ فقد ضلَّ وأضلَّ، وكانَت جِنايتُه على الدِّين" .
-الصادق العثماني،داعية وباحث في الفكر الإسلامي وقضايا الإرهاب والتطرف الديني