الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: المآسي المتناسلة.. العالم العربي في متاهة

عبد القادر زاوي: المآسي المتناسلة.. العالم العربي في متاهة عبد القادر زاوي

على امتداد خريطة العالم العربي لا توجد أي منطقة هادئة، أهلها مجندون فقط للتنمية وبناء المستقبل، يوفرون لهما الاعتمادات، ويسخرون لهما الإمكانيات ويحشدون لهما الطاقات. الكل في هذا العالم منشغل بالصراعات إما يخوض غمار أحدها أو أكثر من واحد منها، وإما معبأ أو مستنزف في اتقاء تبعاتها وانعكاساتها، أو مستغرق في قضاياه ومشاكله الداخلية وما أكثرها.

والأكثر مدعاة للسخرية أن الجميع وهم في ذروة الاقتتال أو التطاحن أو تهدئة الأوضاع يتحدثون عن الأمل في إقامة السلام بما يساعد على استعادة الأمن وطمأنة النفوس، ولكن لا أحد منهم يريده سلام اللقاء عند منتصف الطريق بتنازلات متبادلة ورغبة في العيش المشترك  مع الخصم أو العدو أو حتى مع المعارض عندما يتعلق الأمر بالبلد الواحد.

فمفهوم السلام عند كل واحد من المتصارعين (أيا كانت طبيعة الصراع) هو استسلام الآخر وإذعانه؛ ولأن الآخر يفكر بذات الطريقة ويبحث عن استسلام خصمه لا عن السلام معه، يتواصل النزيف وتستمر الصراعات وترتهن الطاقات، تستوي في ذلك ساحات الصراعات الدموية، وساحات المناكفات السياسية والممارسات البعيدة عن الروح الأخوية وحسن الجوار أو عن المواطنة الحقة.

وبما أن النفوس في هذه الساحات مشحونة إما بالأحقاد الدفينة وحالات الثأر المتوارثة، أو على الأقل بغياب الثقة بين مختلف مكونات المجتمعات؛ فإن التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في شؤونها كانت سلسة، وازدادت سلاسة ويسرا، واكتسبت نوعا من الشرعية والقبول الدوليين مع اندلاع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته.

 لقد أنعشت تلك الثورات والاحتجاجات الانتماءات الدونية القبلية والدينية والمذهبية والجهوية بشكل ساعد على شرذمة بعض نماذج الدولة الوطنية كما انبثقت عن الحقبة الاستعمارية، وفي أضعف الإيمان كشفت هشاشتها وأثبتت فشلها في ترسيخ مبادئ الدولة الحديثة المنسجمة مع قواعد القانون الدولي القادرة على تجاوز التعامل مع المواطنين بمفهوم الرعية.

وغير خاف على أحد أن المحرك الأساسي للتدخلات الخارجية هو مصالح الدول المتدخلة، وهي مصالح متضاربة، متناقضة، متقاطعة ومتشابكة تتعلق بالنفوذ السياسي والحضور الأمني والعسكري أو بالاستحواذ الاقتصادي والتجاري، وتستخدم لحمايتها ورعايتها كل الأساليب الممكنة العسكرية والاستخباراتية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية وغيرها.

ولذلك حتى لو مالت الكفة في بعض الصراعات الدموية لطرف دون آخر أو سجل أحد المتنازعين في الخلافات الدبلوماسية والسياسية البينية والمحلية نقاطا إيجابية لصالحه، فإن الأزمات في عموم المنطقة ستظل قائمة، ومتشابكة لا يمكن فصل بعضها عن بعض، ولن تصل في ظل المعطيات الراهنة وبالعقليات السائدة حاليا إلى أي هدوء تام أو تسوية نهائية.

أكثر من ذلك، فإن الأوضاع الراهنة المتسمة بالعناد المتبادل بين أطراف الصراعات، وبنكوص السلطات الحاكمة عن كل المكتسبات الديمقراطية مهما كانت شكلية تدفع باتجاه تأجيج الساحات وإعادة زخم الاحتقان الشعبي إليها، ليكون المستفيد الأكبر من كل ما يجري هو الفوضى، التي لا يبدو في الأفق أنها فوضى خلاقة كما وعدت بها واشنطن قبل 12 سنة، وإنما مدمرة على جميع المستويات، وقابلة للتمدد، كما يستشف من التطورات الأخيرة على أكثر من ساحة.

وبديهي في ظل عدم قدرة أي طرف على حسم الصراع أو الصراعات التي يخوضها، وفي غياب إرادة البحث عن حلول توافقية لهذه الصراعات نتيجة شلل كل الآليات والمؤسسات المشتركة التي كان يفترض فيها إيجاد الحلول مثل جامعة الدول العربية والتجمعات الإقليمية الموازية (مجلس التعاون لدول الخليج العربية واتحاد دول المغرب العربي)؛ فإن المنطقة العربية ستظل منطقة للأزمات المفتوحة، القاتمة المستقبل والقابلة لكل الاحتمالات، سيما وأنها عرضة للمزيد من كثافة وضخامة تدخلات القوى الدولية الكبرى، التي يتضح أنها لم تجد بعد صيغة مناسبة لتوازن مصالحها المختلفة في المنطقة.

لاشك أن هذه الحالة تدعو للرثاء، وتزرع اليأس في صفوف العديد من القوى الحية في مختلف المجتمعات العربية. فهل ينبغي الاستسلام لها وانتظار ما سيقرره الآخرون لهذه المجتمعات  ونيابة عنها وربما غصبا عنها؟

مستقبل المنطقة لن يكون كماضيها، ولا كحاضرها، وكل المؤشرات تصب في هذا المنحى، وعلى كافة دول المنطقة وشعوبها الإسراع في تهيئة أنفسها لحقبة جديدة ولواقع آخر، وإلا فإن المآسي ستتزايد وستتناسل. لن تستطيع سياسات كسب الوقت والاكتفاء بالمساحيق والاستماتة في تلميع مؤسسات مهترئة ثبت على أكثر من صعيد فشلها، ولا تزال غارقة في مستنقعات تفاهتها أن توقف تيار التغييرات القادمة. فمن يستوعب هذه التطورات البادية إرهاصاتها للعيان؟

فيما مضى كان العالم العربي يعج بقادة حكماء (رغم كل المآخذ على سياساتهم الداخلية) كانوا يستطيعون لجم رعونة البعض، والحفاظ على شعرة معاوية في العلاقات بينهم حتى في ذروة توترها، وبذلك جنبوا المنطقة الكثير من الزلازل والويلات. فهل باتت المنطقة العربية اليوم عقيمة ليترك كل إلى مصيره؟ لا أعتقد، ولكن تلك قصة أخرى لم يحن بعد أوان سردها.