السبت 20 إبريل 2024
مجتمع

فريد الحمداوي: معتقلو الريف ..أحكام بلا تعليل (4)

فريد الحمداوي: معتقلو الريف ..أحكام بلا تعليل (4) فريد الحمداوي
للزيارة (معتقلو الريف بسجن عكاشة) طقوس خاصة، اتفق عليها الجميع دون أن تعرض للنقاش أو المصادقة، فالزغاريد والتصفيق حين دخول المعتقلين إلى القاعة فرض وواجب، لا تستطيع أن تتمالك نفسك حين ترى تلك الوجوه البريئة تخرج من الباب، ترى النور ينبثق بين سواد الظلام ينير القاعة فرحا وشوقا، الأطفال الصغار يكسرون القواعد، قواعد الحدود التي وضعت بيننا وبين المعتقلين، فما وراء الطاولة العريضة على طول القاعة، وهو المكان المخصص لوقوف أو جلوس المعتقلين يكون في الغالب ساحة لعب لأبنائهم وأبناء أفراد عائلاتهم، يركضون ويصيحون بأعلى صوت، ويرفعون شعارات الحراك وسط ابتسامات عريضة من الحراس و المتواجدين بالقاعة.. فحين تكون منهمكا في حوار مع أحد المعتقلين تسمع.. "لا للعسكرة لا للعسكرة" أو "الشعب يريد سراح المعتقل".. لينخرط الجميع في رفع نفس الشعارات.. فكم جميل أن تصبح طفلا تتخطى كل القيود والحواجز..
حين فتح باب القاعة الحديدي، وأصدر صوتا قويا، التفتنا جميعا صوبه، كانت أخت أشرف اليخلوفي تلج القاعة وبعدها بلحظات التحق إدريس بولحجل، وسط تصفيقات الحاضرين، كانت تبدو منهكة بعد رحلة من مدينة طنجة، حيث تقيم، كانت متعبة أيضا من رحلة السفر تلك، رغم أن المسافة أقرب، لكن المعاناة واحدة ومشتركة، كانت تلهث تعبا وشوقا لرؤية أخيها، ولم يمر سوى زمن قصير حتى أدخل الحراس علينا كل من المعتقل أشرف اليخلوفي وبدر بولحجل، هذا الأخير يقبع في جناح مصحة السجن رفقة الحبيب الحنودي ومحمد جلول ونبيل أحمجيق وربيع الأبلق.. لكنه استفاد من زيارة جماعية معنا، فقد كانت هذه ضربة حظ أخرى زادت من جرعات الفرح عندي، بأن أرى أكبر عدد من الأبطال المعتقلين..
 بدر بولحجل يعرج قليلا، يشكو من آلام في رجله، شاب لطيف، بلحية خفيفة ووجه أبيض ناصع، تربطني به علاقة من قبل، خصوصا وأنه أخ صديق الطفولة والدراسة الابتدائية، إدريس بولحجل، وثانيا فهو موسيقي عازف إيقاع جيد، كان كلما يلتقيني يقول لي:" خويا فريد، إن كنت في حاجة إلى عازف إيقاع في فرقتك فأنا رهن الإشارة في كل زمان ومكان.." فكان سؤاله الأول الذي يفتح به حوارنا: "هل من جديد في الموسيقى يا صديقي؟" أجبته: "فقدنا الرغبة في كل شيء، وقد أجلنا مشاريعنا الموسيقية إلى حين إطلاق سراحكم جميعا إن شاء الله"..
أشرف اليخلوفي، تعرفت عليه أكثر حين كان رفيقا ليوسف الحمديوي في زنزانته، في مرحلة التحقيق، كان يسأل عني كثيرا، هو أيضا تعرف علي أكثر عن طريق يوسف، خصوصا بعد تأسيسنا للجنة عائلات المعتقلين المرحلين إلى الدار البيضاء، في الأيام الأولى من بداية حملة الاعتقالات.. شاب لطيف جدا، تحس بأنك تربطك به علاقة منذ زمن طويل، رغم أنك لم تتعرف عليه سوى داخل أسوار هذا السجن اللعين، سريع الـاثر بظروف السجن، ففي كل مرة ألتقيه في السجن أراه بشكل مختلف وبحالة مختلفة، لكن الابتسامة التي يرسمها على وجهه لا تتغير أبدا وترميك بسهامها وترديك بضربة واحدة..
ناصر الزفزافي، كان ديموقراطيا في توزيع وقته على الحاضرين داخل القاعة، فقد ألف أن يكون وحيدا رفقة عائلته في نفس القاعة، والف أجواء الصمت والهدوء، لكنه الآن أصبح مضطرا للاستئناس بهذه الأجواء، والتي تعتبر إيجابية بالنسبة له لكي يرى أبناء مدينته التي ضحى من أجلها.. ويمنح لكل واحد نصيبه من الوقت حسب معرفته به، رغم أنه قضى معظم الوقت مع والده وأخيه طارق ..  
حين جاء دوري، جاء إلي مبتسما، قال: "هيوا أيحنجير مين تعاواذذ"؟ كانت هذه بداية حديث عن المحاكمة وشهود الزور والملف المطلبي وأمور كثيرة لم تسعفنا اللحظات تلك لنتمم الحديث عنها،
 سألته: هل توصلتم بمنطوق الحكم؟
 أجابني: نعم لكنه منطوق حكم بدون تعليل، 20 سنة نافذة بدون أي تعليل، لقد أخبرنا المحامون بأننا سنتوصل به لاحقا ولا زلنا ننتظر..
قلت ضاحكا: كيف سيعللون هذه الأحكام القاسية يا "ناصر إنو"..والكل شاهد على مسرحية شهود الزور تلك، شهود 700 متر..
ضحك وأجاب: "أنوغن".. رددت وراءه نفس الجواب، لكن هذه المرة مرفوقة بالقسم..
حين بدأ الحراس يقرعون باب القاعة الحديدي، إيذانا بانتهاء وقت الزيارة، بدأ مسلسل العناق من جديد، بدأت بيوسف ثم ناصر الزفزافي، وبدر بولحجل، وصلاح لشخم، لأعود لأعانق ناصر من جديد، حين نلتقي في زحمة العناق  تلك، ليس للعناق حدود، فقد تعانق نفس المعتقل ثلاث مرات على الأقل، فكلما أصل باب القاعة أعود من جديد لأعانق من أجده أمامي وسط إلحاح الحراس بأن وقت الزيارة قد انتهى، فلوعة الفراق تلك تعْلمك بأنك ستترك وراءك رجالا ضحوا بشبابهم وحياتهم من أجل حلم، حلمنا به جميعا وحلمنا به لأطفالنا وأحفادنا من بعدنا، أبطال كان حظهم الاعتقال وسلب الحرية، لكنهم أقوياء يؤمنون بأن النضال في سبيل الحق وفي سبيل الكرامة، لا بد له من ضرائب، فلنا الشرف أن أكون ممن يؤدون ضريبة اسمها الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية..
أغلق باب القاعة بعد أن غادر من استكمل وقت الزيارة، وخرجنا ننظر إلى بعضنا البعض، شعور بالفرح والحزن، شعور باللقاء والفراق، رغبة في البكاء وفي الابتسامة، مشاعر متناقضة، متداخلة تصارع نفسها داخلك.. قال عيزي أحمد والد ناصر ليكسر أجواء الصمت تلك:
"هيا بنا لنعود إلى الحسيمة، لنستعد للزيارة القادمة، فلقد قمنا بتحفيظ (من المحافظة العقارية) المقاعد الأمامية في الحافلة التي تتجه صوب الدار البيضاء.." ثم خرجنا إلى نور الشمس من جديد.