السبت 18 مايو 2024
كتاب الرأي

مصطفى المتوكل الساحلي: العقل المتنور في مواجهة الدجل واللغط السياسي

 
 
مصطفى المتوكل الساحلي: العقل المتنور في مواجهة الدجل واللغط السياسي

يقول النبي صلى الله عليه وسلم "من أتى كاهنا، أو عرافا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد"، واليوم لا يحتاج الناس للتنقل إلى الكاهن أو العراف بل يقابلونه في بعض المقاهي والأندية السياسية وفضاءات الاعلام، فكثر قراء الكف والرمل والأثر والورق، يتنبؤون بما في العقول وحتى ما لم يتبادر إلى الأذهان، كما يخبرون بالمستقبل من أمور الدنيا وأحوال الأفراد والجماعات والدول والسياسات ونفس الشأن بالنسبة لأمور الآخرة فيدققون ويفصلون في مالم ينزل فيه وحي وما لم يقله الأنبياء..؟!

ولهذا نقول إذا كان الدين لا يجيز  الاستعانة بالدجالين ولا بـمن في القبور فكذلك العقل السليم المتنور لا يقبل ذلك، إن بعض السياسيين ببعض الأحزاب وخارجها يميلون إلى الاعتقاد بالتنجيم وبركة الأولياء والصالحين وخربشات المشعودين، للفوز في الانتخابات وللتنبؤ بأحداث المستقبل ولإبعاد الخصوم وافشال مخططات كل النفاثين والنفـاثات في "العقد" الموجهة ضدهم... ومن العامة كذلك من يؤمن جهلا بكلام المهرجين وبعض الساسة الذين لم يتركوا لا العلوم المادية ولا الغيبية إلا وتحدثوا فيها وكأنهم يوحى إليهم أو تكشف لهم الحجب..؟؟

إن هواة الكهانة في السياسة يتقاسمون إلى حد ما الخلفيات والأهداف مع كهنة المعابد القدماء، بادعاء القدرة على الكشف عن الحقائق وإخفائها، و"كفر" المعطيات الدالة عليها، وصناعة أفكار واستنتاجات وتوقعات مستقبلية ترهن مستقبل الناس وتوجهاتهم وتتحكم في إرادتهم بمبرر تجنب أوخم العواقب وأخطر الاحداث، بـمخالفة صريحة لروح الدين والعقل والفطرة والطبيعة البشري، وهنا  التشابه بين من يقدم الهبات والأضحيات والقرابين للكهان في عوالم التخلف، ومن يقدم الاحسان والرشاوى والولائم في التأطير السياسوي لتدجين الناس وتنويم وعيهم وتعطيل إراداتهم الحرة من أجل تحقيق كل شيء بما في ذلك أن تمطر السماء ويرتفع الغضب الإلهي ويضمن الفوز والفلاح في هذه الدنيا وحتى في الدار الآخرة..، إن ممارسات الكهانة لتخصص التنبؤ بالغيب الدنيوي يدفع البعض إلى الاخلال بالقواعد المعتمدة في "ثقافة" العرافة والتي ترتكز على التعميم والتجريد والمبهمات والتوقعات التي تحتمل أكثر من تفسير و أكثر من جواب على سؤال واحد.

إن هذا النوع من "السياسات" الملتبسة والمستبلدة للوعي الفردي والجماعي تشكك في كل شيء، حيث لا يعلم العامة متى يكون أكل الذئب حلالا ومتى يحرم، ومتى يكون الانسان مؤمنا ولو كان كذابا، ومتى يكون كافرا ولو كان مؤمنا، ومتى يكون الكلام صادقا ولو كان كاذبا، ولا كيف يمكن "للعفاريت والشياطين" الذين يصنفون بأنهم مفسدون في الارض أن يصبحوا من عباد الله الصالحين الذين لا تستقيم الامور إلا بهم ومعهم...؟

إن اعتماد سياسات تقديم الخداع والزيف على أنها حقائق، بتبرير الأخطاء والاخفاقات ونسبتها للغير وللغيب وللمجهول، وبسرقة وتبني نجاحات الآخرين وادعاء السبق، وبتبخيس وتسفيه منجزات وآراء وأفكار المخالفين ولو كانوا الأفضل والأمثل، يـشكل أكبر ضربة للتنمية المستدامة والمتقدمة فكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ومؤسساتيا، إنها تتسبب في التشكك والنفور والعزوف والرفض لكل العروض المقدمة للبشرية لحل مشاكلهم، فتتحول نسبة من الشعب بسبب ذلك إلى إرادات تسعى إلى التعطيل المعنوي للسياسات الرسمية بمقاطعتها والاستهتار بها وتعريض أصحابها لكل أنواع التجريح والقذف  والتحقير، فيمارس البعض منهم كذلك لعبة العرافة وإطلاق الكلام على عواهنه للدفاع عن أنفسهم وإعلان وجودهم الرافض لكل ما هو رسمي، فيصنعون أخبارا ويروجون إشاعات ويخوضون معارك افتراضية لتصريف غضبهم وإزعاج خصومهم المختلفين، ولقد يسرت بعض صحف الرصيف الصفراء وفضاءات ما يطلق عليه التواصل الاجتماعي انتشارا لنيران التجاذب السلبي والتبخيس المتبادل، وإن عرجنا على بعض الخزعبلات والاشاعات الكاذبة لوجدنا أن آثارها تسيئ إلى أجيال وقد تمتد لعقود، اعتمدها المحترفون لسياسات التعطيل النظرية والتطبيقية لإقبار الوعي المتنور وتأخير عجلة التنمية، وزعزعة الثقة تجاه كل ما هو مفيد والتشجيع على العزوف عن العمل الايجابي.. والرفع من مستويات التوتر وعدم الاستقرار.. إن أقرب الطرق وأنجعها لتحقيق المطلوب والأماني هي الواقعية والموضوعية والتواضع والانفتاح على كل الطاقات الموالية والمعارضة والممانعة وحتى العدمية تواصلا وعملا، والابتعاد عن الأنا التي من طبعها الميل للغرور والعجرفة إن لم تهذب وتعلم ، لهذا جاز التشـبيه هنا بالدجالين الذين يستعملون السحر ليفرقوا به بين المرء وأهله ولينشروا الكراهية بين الناس لإبعادهم عن التعاون على العمل الصالح وفعل الخير وإرساء العدالة الشاملة في كل المجالات ليكون المستفيد الأكبر فيها هو الشعب الكادح بما يضمن له حياة كريمة لا يحتاج فيها إلى مد اليد أو الاستجداء لتحقيق ضرورات الحياة ولا إلى من يبيعه صكوك غفران يحتاج موزعوها وأصحابها إلى أكثر من استغفار.

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِساً كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ". فكم هي مجالس اللغط والإساءات والتناور وإفساد الوعي  في عوالم تواجدنا واشتغالنا ماديا و"روحيا"؟ وهل يمكن لدعاء كفارة المجالس أن يستغفر به على الأقوال التي تتحول إلى أفعال تنشر بين الناس لتقطع بها الأرحام وتمزق الصفوف والجماعات وتحاك بها المؤامرات وتوظف للابتزاز والتحكم في أحوال وأمور العامة والخاصة؟

إنه لا يصح ولا يمكن من كل الوجوه ادعاء البناء والإصلاح بأبشع أنواع التخريب وأخبث الطرق وأسوئها.

قال تعالى "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (الحديد:20).