الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد اللطيف برادة : محاكمة سقراط كنموذج

عبد اللطيف برادة : محاكمة سقراط كنموذج عبد اللطيف برادة

يسيرُ في الشوارع والأزقة ، حافي القدمين ، ثيابه رثّة ، أجعد الشعر ، جاحظ العينين ، قصير القامة ، دميم الخِلقة ، لا يهتمّ لأمور بيته يلتفّ الناس حوله في الطرقات وتحت ظلّ الأشجار ويطْرِقُ عقولهم بأسئلته البديهة كمثل  : ما العدالة ، ما الحق ، ما الفضيلة ، ما الخير ؟..الخ يُشعلُ بأسئلته الدّهشة في أولئك التلاميذ وكأنّه كلّما سار في طريق كانت آثار خطواته استفهامات وتعجبٍ  والناس تلاحقه وتتعجب من تلك الآثار الغريبة الفريدة  لذلك الرجل وتتساءل لماذا احتفظت الطرقات بآثار تلك الخطوات فقط  لسقراط دون غيره من رجال أثينا ؟! لكن حالة الرجل المتجولِ وصاحبِ آثار خطوات الاستفهام والتعجب لم تدم طويلا وكادت أن تُمحى آثارها لولا تلميذه النابه الأرستقراطي و (السّقراطي) / أفلاطون الذي دوّنها في جمهوريته.. فبعد خسارة أثينا في حرْبِها الطويلة (البلوبونيزيّة) تكوّنت حكومة إسبارطة في أثينا التي ترأسها (كيرتايس) أحد التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول سقراط في أثينا  لم يعجبْ سقراط أهل أثينا ؛ فاتهموه بإفساد أخلاق الشباب وبث الأفكار الغريبة  على عقولهم ، قُدّم للمحاكمة ذلك السبعينيّ الدميم وأُدين بتلك التّهم . فيعرض عليه صديقه كريتو بعد ارشاءه السجّان الهروب فيردّ عليه سقراط بهدوء: علمتكم أن تطيعوا القوانين فلا تخترقوها ويجب أن نطيعها! وفي الاخير تجرّع سقراط سمّ (الشّكران) ونهض تمتلا لأوامر السجان ومشى الهوينا لخطواتٍ؛ حتى انتهى السمّ لبقية أجزاء جسده وسقط ومات - عام ٣٩٩ قبل الميلاد -بعد أن تجرّع السمّ! رفض سقراط الهروب لأنه لم يكن يقبل إلا ما كان فيه حكمة وفائدة وقد يصل حتى لو وصل الأمر على حساب موته.  هكذا فجر ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم فجر للوعي الإنساني؛ إذ على يديه بدأ الوعي والتفكير في ذاتِ الإنسان ومعايير الأخلاق ويصف الكاتب الروماني شيشرون دور سقراط بقوله : ( لقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض)  أي أنه انتقل  من التفكير  في الطبيعة والكون الذي كان سائداً إلى التفكير في ذات الإنسان وعلاقته بالأشياء  والمعايير الأخلاقية . الخير والحقّ و الجمال والأخلاق وأطرقت أبواب الأسئلة المفتوحة ؛ فاسلك طريق ونهج ذلك العقل الفلسفي الحرّ المتسائل فهو الطريق الذي مهّد للبشرية الاكتشاف والمعرفة .
سُقراط لم يكن سوى شخصٍ متمرّدٍ في نظرِ أهلِ أثينا ؛ ولكن تمرّده (الجميل) له أثر عظيم في التاريخ الفلسفي و الفكري للبشريّة الذي أصلهُ قد خرج من تلك الأحاديثِ والاستفهامات التي كان يزرعها في عقول التلاميذ ويرميها في طرقات أثينا وتارة تكون كأنها  آثار  لخطواته -السقراطية- فيلاحقه التلاميذ.
 ما انفكّ يفشلُ في هدايةِ قومهِ ..
ففي كلّ عصرٍ  فيه حكاية تمرّدٍ تشبه حكاية سقراط ؛ فكل  إنسان يأتِ بفكر جديد يجابه بالرفض والشجب ويخفقُ في هداية قومهِ وأن هذا الأمر أزليّ ، والتاريخ لايزال يسجل هذه القصص التي لا تنتهي والتي كان سقراط أحد ضحاياها . إذ كان السؤال هو شريعته المقدسة ومنهاجه الذي اتخذهُ لتوليد الأفكار لدى تلاميذه. ما قد يرتكبه الإنسان من (فعل جديد)؛ كي يبحث عن الحقيقة قد يكون آثما من وجهة نظر أخيه الإنسان الآخر الذي تعوّد النظر للأمور بنظرة اعتيادية صرفه، وغالبا يكون ذلك الفعل الجديد) -الإثم- قد تكون هي الحقيقة الجديدة المكتشفة ولا يؤمنُ بها أصحاب الفكر التقليدي والاعتيادي إلاّ لاحقاً.

إذ أن سقراط آمن بأفكارهِ حتى الموت، وهكذا يجب على الإنسان أن يؤمن بمبادئ الفكر حتى وإن كانت على حساب موته. ان الأفكار القوية والصادمة والجديدة التي يضعها أي كاتب جريء متسائل في صحيفته تكون دافئة؛ كأنها نتاج غليانِ التفكيرِ الداخلي الحرّ المنطلق في عقله ، وأن الفنّ إنسانيّ هويته ومهمتهُ الأزلية  بث الجمالِ في هذا الكون الفسيح .
يقول سقراط : (اعرف نفسك ) وهنا شاعرُنا في سقراطيّتهِ يقول : (كن شيخ ذاتك ..) ؛ لكلّ إنسان طبيعته الفريدة وخصائصه وموهبته التي تميزه عن الآخر ويجب أن يستنكهَ و يكتشف الإنسان تلك الموهبة التي أودعها الله عزوجل فيه وأن ينميها حتى تكبر ويكون له من خلالها بصمة مؤثرة في هذه الحياة ، ولا أحد يستطيع أن يساعدك على اكتشافها إذا لم أنت تساعد نفسك فأنت أعلم ما بنفسك وما تحب وما تكره وليس ذلك الشيخ أو المرشد .
حياة الأشخاصِ ما هي إلّا كفيلم سينمائي فالأفلامُ السينمائيّة تتنوع فهناك الفيلم العادي الذي لم يترك بصمة خالدة في السينما العالمية وفي نفوس الناس وآخر وشم في ذاكرة السينما العالمية أجمل رسم خالد لا يمكن أن يمحى من ذاكرتها كذلك هي حياة الأشخاص تتنوع فمنهم من ترك إرثا عظيما كصديقنا : سقراط ومنهم من مضى وقضى نحبه ولانعرف عنه شيئا ولله حكمته في تنوع وتفاضل الأشخاص في الأثر الذي يتركونه في هذه الحياة . يؤكدُ بأن النوم ليس إلاّ حالة من حالات الوعي المتغيرة عن حالة الإنسان حال استيقاظه؛ وكأنه يشيرُ  بأن حالة وعي الإنسانِ العميقة  في منامه أفضل وأوسع خيالا من حالته أثناء استيقاظه ؛ ولذا نفهمُ السّبَبَ الذي جَعَلَ الشاعرَ   يطلب عدم الإفاقة من بحيرة الأحلام  والأفكار والخيالات الخصبة وما النوم إلا إعادة تنشيط للفكر و الدماغ . ثمّ يعرّج شاعرنا إلى الوهم الذي يسيطرُ على عقلِ الإنسان ويمنعه من فعل الأشياء العظيمة في هذا الحياة وحقّا ((لم يعرِف التّاريخ شرّ حراسةٍ من أن يكون المرء حارس وهمهِ)) كما قال في سُقراطيّته . يؤكد شاعرنا دعوته مرة أخرى  بأن يأخذ المرء نهج التفكير الفلسفي والعقل الحرّ المتساءل  كما فعل سقراط ، دون تردد حتى وإن كلّف الأمر دخول العقل في حرب الأفكار ؛ لأن ذلك مؤداه إلى الشكّ (النبيل) -كما وصفه لاحقا في قصيدته -فكل ّ مبدعٍ في هذه الحياة منتسبٌ لبني الشكوك فلولا ذلك الانتساب الرائع ، لما خرجت معظم الإنجازات الإنسانية الخالدة العظيمة كما أن اليقين والإجابات  الجاهزة  لم تكن  أبدا رفيقاً لأولئك المبدعين ؛  بل و عقم عن إنجابهم .منذُ بدء عصرِ التاريخ وتحديدا منذ أن  نقش ونامت حروف ورسوم الإنسان على الحجر كالنوم العميق للرضيع بين ذراعي أمهِ ، لم يظهر في التاريخ مبدع لم ينبت الشك النبيل بعظمهِ أي ذلك الشكّ الذي يؤدي إلى اكتشاف الحقائق وإظهارها وخوض الأفكار الجديدة واستلهامها وكل  ما فيه خير ومنفعة للإنسانية .