الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

ماء العينين ماء العينين: الحزن بالنسبة لي مضاعف بوفاة المناضلة خديجة الشاو

ماء العينين ماء العينين: الحزن بالنسبة لي مضاعف بوفاة المناضلة خديجة الشاو

تلقيت نبأ وفاة المشمولة برحمة الله ومغفرته الحاجة خديجة الشاو، مساء يوم الأحد 30 أكتوبر2016 من طرف ابنتي الحقوقية الأستاذة فاطمة الزهراء. تأثرت للفاجعة ككل مغربي وحقوقي، أرسلت رسالة نصية لابن الفقيدة، الأستاذ مصطفى المانوزي تلقيت من طرفه خبرا يتعلق بوقت الدفن ومكانه. فقررت الحضور في الوقت والمكان المحددين لذلك. استرجعت ذكريات هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة تلك الجلسة التي جمعتنا بالمرحومة وزوجها العظيم الحاج علي، وابنهما رشيد والمناضل الكبير المعروف أوشلح إبراهيم، مصحوبين بمحامي العائلة الأستاذ ألآن (Alain)، تواردت الأفكار، والخواطر، وأنا استرجع ذكريات تلك الجلسة التي مازالت وستبقى ماثلة في الذاكرة والوجدان فعدلت عن ذلك، وألقيت العنان لليراع فكانت الخاطرة  التالية:

أتذكر جيدا زوال ذلك اليوم الذي استقبلنا فيه برئاسة المرحوم ادريس بنزكري أسرة لا كالأسر تتكون من أب وأم وابن يتحدرون من جبال الشهامة والشموخ والكبرياء والاباءة جبال سوس الشماء والشاهقة في سماء المجد والخلود.

أتذكر كذلك بعضا مما كتبته عن أم الحسين في روايتي "أضغاث أحلام" حين قلت: بعد مداخلة الوالد أجهزت أم الحسين على ما بقي من تجلدنا وصبرنا، إن كان بقي فعلا منهما شيئا، وهي تحكي عن سفرها الطويل مع الحزن والاسى ولوعة الفراق، وجراح الهواجس. لقد فعلت أنات الليالي الطوال والسوداء بالمكلومة ما أرادت، كما حفرت الدموع أخاديدا  جعلت من وجهها لوحة من الشعاب والأنهار والوديان تجري فيها  آناء الليل وأطراف النهار دونما توقف بحزن وأسى كبيرين، ولكن كذلك بأنفة وعزة وكبرياء قل نظيرهم.

وأضفت كذلك في الرواية:

كنت مشدوها بعواطفي وإحساسي إلى ما كنت أسمع وأرى، وخاصة أنه رجع بذاكرتي إلى سنة 1971، وتحديدا إلى تاريخ 17/9/1971 حيث حكم على الشيخ المانوزي الموجود أمامي في تلك اللحظة غيابيا بالإعدام بتهمة المس بأمن الدولة، كنت حينئذ بالمعهد الوطني للدراسات القضائية، وكنت ممن حضر تلك المحاكمة بصفتي قاضيا متدربا، أتذكر جيدا هذا الاسم، ذلك أن سبعة أو ثمانية أفراد من عائلة المانوزي تمت متابعتهم، والحكم عليهم في هذه المحاكمة بأحكام قاسية.

بل رجعت بي الذاكرة إلى التاريخ الأبعد، إلى سنة 1934، وتحديدا إلى منطقة أيت عبد الله بسوس، حيث كانت المعارك الضارية بين جيشين غير متكافئين، الأول يقوده قائد معركة سيدي بوعثمان الشهيرة جدي للأم الشيخ مربيه ربه وبمعيته جدي للأب الشيخ محمد الإمام أبناء الشيخ ماء العينين، والثاني لقوات الاحتلال الفرنسية، وكان من ضمن شهداء تلك المعركة بعدما أبلى فيها البلاء الحسن الشهيد محمد أكنكاي جد الأسرة، وجد الحسين المانوزي الذي تعقد الهيئة جلستها الخاصة مع والده في موضوع البحث عنه، وكأن الأقدار خططت لهذه المصادفة بشكل يختلط فيه التاريخ بالنضال.

بدأ بنزكري بكلمة مقتضبة ومختصرة بدايتها الترحيب بالأسرة والإشادة بمكانتها المتميزة في ذاكرة النضال الوطني، وتعاطف الهيئة مع مأساتها التي تتجلى في فقدان ابنها وعدم معرفة مصيره وما كابدته في سبيل ذلك، ومعاناتها مما لحقها من.....

ثم فتح المجال للأسرة وكانت البداية للحاج علي ثم للزوجة ومن بعدهما للابن. وبما أن المناسبة شرط فسأكتفي بما بقي عالقا بالذاكرة والوجدان من كلام الأم المكلومة، التي كانت مداخلتها تقطر حزنا وأسى على الوضعية التي كانت عليها.

بقلوب كانت تجتر الذكريات اجترارا أليما كنا نتتبع ما كانت تقوله. وبآذان  صاغية ملؤها الحزن والأسى كنا نصغي لما عانته الأسرة  الزوج، الزوجة والأبناء.

وبتتبع شديد وملاحظات دقيقة، كنا نرصد حركات وسكنات وانفعالات الأم المكلومة، وهي تحكي عن تفاصيل وجزئيات المأساة، وكأنها عاشتها للتو. لا مجال للرجوع إلى مذكرات أو....فهي تعرف عن المرحلة الشيء الكثير وعن معاناة الزوج الشيء الأكثر ومعاناة الأبناء ما لم نكن نتصوره خاصة من امرأة طاعنة في السن تتحدر من جبال تعاني نساؤها في تلك الفترة القاتمة من الجهل والأمية وعدم التكوين السياسي الشيء الكثير.

تحكي الفقيدة عن ذلك الماضي الأليم، وتلك اللحظات العصيبة التي استمرت سنوات وسنوات ولا تزال تقض مضجعها. وتقلب ليلها ونهارها إلى جحيم لا يطاق.

تحكي عن تلك الكوابيس المروعة والاحلام المفزعة. والتهم المجانية التي لحقت الزوج والابناء، ومن عسف وظلم وجور من قدر لهم أن يلطخوا أياديهم بدماء الشرفاء من أبناء هذا الوطن. ومن هذه الغربة القاتلة التي أصبحت الأسرة تعاني منها في وطنها وبين أهلها وذويها.

كنا نستمع وكأنما على رؤوسنا الطير إلى ذلك وغيره كثير ونحن في منتهى التأثر والحزن والأسى. منا من بكى بكاء مريرا في دواخله، ومنا من أجهش بالبكاء حيث لم تسعفه عاطفته الجياشة في التغلب عليها... ومنا من لم يستطع النطق ببنت شفة بعد أن فتح الرئيس لنا المجال للحديث في الموضوع.

أما المرأة وهي تحكي برباطة جأش عن المأساة والمعاناة فبقيت صامدة، شامخة شموخ جبال سوس الشماء، وهي تحكي عن ليالي ألف ليلة وليلة من العسف والظلم والجور، تجول بنا بين سراديب المعتقلات السرية، ومخافر الشرطة. وتحط بنا الرحال بين هذه المحطة المظلمة والأخرى القاتمة والتي تليها وهي الأكثر قتامة وسواد، وحلكة لا مكان للتأثر والحزن والأسى وكأنها تحكي لنا عن ليالي ألف ليلة وليلة المعروفة. وإن كان الحزن هو سيد اللحظة ومعه التأثر والأسى، وكيف لا وقد نكأت اللحظة جراحا غائرة في القلب والوجدان لم تندمل بعد.

وختمت كلامها بجملة مازالت وستبقى ترن في الآذان وتحتل من قلبي ووجداني مكانة خاصة، قالتها بمنتهى العفة والشموخ والكبرياء والأنفة:

لا أريد منكم تعويضا، ولا تعاطفا مع مأساتنا ولا إصدار بيان بذلك، ولا حتى اعترافا لنا ولأسلافنا بمكانتنا في النضال عن حوزة وشرف وحرية هذا الوطن الذي يبقى عزيزا علينا في جميع الأحوال. والتصدي للمتعاونين مع الاستعمار حيثما كانوا، ما نطلبه منكم أيها الأعضاء هو:

معرفة مصير ابننا الحسين، إن كان حيا فسلموه لنا، وإن كان ميتا فسلموا لنا رفاته وبذا تكونوا قد قدمتهم لنا عملا جليلا. وقمتم بما هو مطلوب منكم. وإلا فسنبقى مطالبين بذلك ماحيينا.

وهكذا قدر للفقيدة أن يبقى سؤالها بدون جواب إلى أن فارقتنا جميعا إلى دار البقاء، فرحم الله الفقيدة المناضلة، بنت المناضل، زوجة المناضل، وأم المناضلين برحمته الواسعة ولتتقبل مني أسرتها هذه التعزية المكتوبة بمداد الحسرة والأسف والأسى. فالحزن بالنسبة لي مضاعف فهو وطني وحقوقي ولكنه كذلك عائلي انطلاقا مما ذكر أعلاه.