الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي: قضاء عادل نزيه..

ميلود العضراوي: قضاء عادل نزيه.. ميلود العضراوي

"لقد انتصرنا في الحرب العالمية الثانية بفضل قضائنا النزيه"

في هولندا، وبالضبط في "مدينة أوتريخت"، قبيل نهاية سنة 2014 بشهور قليلة، رفعت الجالية المغربية بهولندا، دعوى ضد الحكومة الهولندية، لفائدة مواطنين منحدرين من البلدان المغاربية، قامت السلطات الهولندية بالتقليص من معاشهم بعد اختيارهم العودة إلى بلدانهم الأصلية بدل المكوث في هولندا (المغرب).

القضاء الهولندي فصل في الدعوى لفائدة مواطنين مجنسين غير أصليين، في وقت قياسي بالنسبة لنا وعادي جدا بالنسبة لهم حيث لم تمكث إجراءات الحكم سوى 20 يوما. الشكاية تدخل في قائمة النزاع الاجتماعي، من حيث أن القانون واضح في هذا الاتجاه، ومعالجة ملفات من هذا النوع لا تتطلب وقتا طويلا للفصل فيها نظرا لخصوصيتها الاجتماعية وطابعها الاستعجالي. غير أن طبيعة الصراع هنا تتقاطع فيه الدبلوماسية بالسياسة والمواطنة بالواجب والحقوق المدنية المكتسبة بالمصلحة العامة، ويصعب على قاض في بلادنا أو في أي بلد عربي آخر، حين تطرح قضية من هذا الصنف والخصوصية أمام أنظاره، أن يبت فيها بصلاحيات القانون ونصوصه الدستورية وحدها، دون أن ينتظر إرشادات أو مساندة ذات طابع رسمي، على اعتبار أن القضية من خصوصية الدولة أيضا والحاكمين قد ينظرون إليها نظرة معينة وكذلك الأجهزة الرسمية والهيئات المدنية والأحزاب، قد ترى فيها ما لا يراه القضاء وكل يؤل الموضوع حسب منظوره، لتبقى القضية في المحكمة تراوح مكانا وزمنا لا يستهان به قبل الاهتداء إلى حل؟

لذا قد نرى أن البت سريعا في قضية من هذا الحجم، في بحر شهر قمري، أمر قياسي، فالقضية رفعت ضد "الدولة" وليست ضد أشخاص أو مؤسسات تابعة للدولة أو شركات خاصة. حقا الحكومة الهولندية أصدرت قرارا رسميا بتخفيض معاش الراغبين في الالتحاق ببلدانهم الأم، قرار لا يهم المنحدرين من أصل مغاربي وحدهم ولكنه قرار شامل، ومبررات الحكومة في هذا الباب كثيرة؛ أولها هجرة العملة الصعبة إلى بلدان أخرى في ظرفية اقتصادية صعبة ومريرة تطال الاتحاد الأوروبي ويعاني منها غيره من بلدان العالم، وتبدو فيها قرارات من هذا القبيل احترازية فقط، أكثر مما هي قرارات ذات صبغة تمييزية قانونيا أو لأهداف سياسية. ثانيا مثل هذه القرارات الصادرة عن الحكومة الهولندية هي نتيجة ضغوطات اللوبي الصهيوني على كل ما هو عربي أو إسلامي بدوافع انتقامية، والمعروف أن اللوبي الصهيوني الذي يسيطر على العديد من المؤسسات الدستورية في البلاد، يقوم كل مرة بإنتاج صيغ انتقامية متعددة ومتنوعة ضد المسلمين والعرب هناك، كان آخرها الدراسة الجينية ذات البعد العنصري التي صدرت منذ سنة في هولندا تخص المواليد المغاربة بتلك الديار وتمايزاتهم الجينية عن الآخرين. فقد جاءت الدراسة بإضافات افتراضية عارية من الحقائق العلمية تقول، إن المكون البيولوجي للمغاربة يحتوي على جينات معقدة تفرز هرمونات مسببة للعنف والجريمة. فنتيجة الفحص الجيني للمغاربة الذين ازدادوا بهولندا على مدى جيلين، تبين -حسب زعمهم- أن هؤلاء يحملون بذرة للعنف لا تتوفر في سائر المواطنين الآخرين من أبناء الجاليات الأخرى القاطنة في هذا البلد. لم تكن سياقات الاعتداء الصهيوني بهولندا لتقتصر على المساس والتشكيك في القيمة الإنسانية للعرب والمغاربة بهذا المنظور، فقط، بل تجاوزت ذلك إلى النيل من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في قضية الرسوم الكاريكاتورية المشهورة..

والملاحظ أن العداء الجيني والعنصري والتاريخي، لم يفسد للحق والعدل ودا، ولم يؤثر على وظيفة للمؤسسات ولا على ضمائر القضاة، لأنه مع ذلك حكم القاضي الهولندي في قضية لو رفعت في بلد غير ديمقراطي، لدامت عدة سنوات، ولحكمت ضد الطالبين رغما عنهم ولو حشدوا كل القرائن والحجج الدامغة، فالتقاضي بين الفرد والدولة يشكل تحديا كبيرا بالنسبة للمواطن في العالم العربي ككل وليس عندنا فحسب.

لقد اعترف رئيس الحكومة السابق شخصيا أن بأدراج وزارة العدل بالمغرب الآلاف من القضايا المحكومة ضد الدولة لفائدة مواطنين لم يتم تنفيذها. لقد خاض وزير المالية حربا مع المعارضة في البرلمان للمصادقة على المادة الثامنة في قانون المالية لسنة 2017 يستثني الحكومة من إجراءات الحجز التحفظي على مالية الحكومة عند الامتناع عن الأداء بمقتضى حكم نهائي.. وهو أغرب قانون يمكن التعامل معه في مواجهة النصوص الدستورية تخضع الدولة كما الأفراد لسيادة القانون طبقا لمضامين دستور 2011.

هناك في الغرب البارد معجزة العدل التي لا تصدق، ففي ضرف زمني لا يتعدى شهرا كاملا من تاريخ رفع قضية ضد الجهاز الأسمى للدولة في هولندا، لم يتردد القاضي الهولندي في الحكم لفائدة قلة معدودة من الناس ضد حكومته وبلده محقا الحق ومبطلا الباطل ومعيدا الوضع إلى طبيعته. هذا ليس غريبا عن بلدان الديمقراطية وحقوق الإنسان، لقد خسر مؤخرا الرئيس الأمريكي "رولاند ترامب" الدعاوى المرفوعة ضده في العديد من الفدراليات الأمريكية في شان قراره الأخير بإقصاء مواطنين مسلمين عن الولايات المتحدة الأمريكية، وصرح قائلا للصحافة "ليس بيد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية شيء يفعله أمام القضاء الأمريكي"، لا غرابة في ذلك أبدا ولكن الغريب هو أن يقع ذلك في بلادنا؟

وفي السياق نفسه وغير بعيد منه، في المغرب قضية أبسط من هذه بكثير وهي قضية "نزاع شغل" نشب بين مشغلة تستغل قطاع التبغ في المغرب وعارضين بالمئات من أجرائها المتقاعدين، قدموا ضدها دعوى تطالب الشركة باحترام حقوقهم المكتسبة التي نص عليها القانون بعد خصم نسبة 24% من معاشهم المكتسب، فخاضت الشركة الأجنبية ضدهم حربا قضائية ضروسا تداولتها الغرف الاجتماعية بالمحاكم الابتدائية الإدارية ثم الابتدائية العادية والاستئنافية العادية، وانتهت في النقض ليقول فيها كلمته الأخيرة. استغرقت الدعوى ذات الطابع الاجتماعي الاستعجالي حوالي 12 سنة، من سنة 2004 إلى سنة 2016، قبل أن يعيدها النقض مرة أخرى إلى محاكم الاختصاص، بمنطوق يحمل مدلولا قضية ماتت وانتهى أمرها وهو "النقض بدون إحالة" الذي ينقض في الآن نفسه كل محاولة للعودة إلى محاكم الاختصاص، من حيث تقطع الدعوى مسار الألف ميل وتعود للنقض الذي سيقرر حتما ما لا يمكن ان يتعارض مع مبدأ التناقض في الأحكام.

في شبه ذهول عام هيمن على العارضين الذين لم يجدوا تفسيرا للنتيجة التي آل إليها ملفهم على الرغم من امتلاكهم كل القرائن والحجج القطعية خرجوا ليطرقوا كل الأبواب التي لم تفتح في وجوهم فقرروا الاعتصام لأكثر من مرة والمطالبة بحقوقهم ليسمعوا صوتهم لأولياء الأمر. هذا الملف غير خاف على وزير العدل ولا على رئيس الحكومة ولا على وزير المالية الذي يعتبر الوصي المباشر على القطاع والأداة المنفذة لعملية الخوصصة التي تسببت في هذه المآسي، فقد تلقى هؤلاء كلهم وخصوصا وزير العدل عدة شكاوى في الموضوع من قبل أشخاص وجمعيات تمثل المتقاعدين، لكن وزير العدل السابق (مصطفى الرميد) ولا حياة لمن تنادي. لقد استغرقت القضية 12 سنة رحل فيها كثير من العارضين الرحلة الأخيرة إلى عالم البقاء. ولسان حالهم يردد "عند ربكم تختصمون"؟ أكيد أن القاضي الهولندي سيذهب عند ربه ليحاسبه عما فعل فهو من الذين يشملهم الحديث النبوي "قاض في الجنة وقاضيان في النار" وبالقدر الذي لا يجد القاضي الهولندي نظرا لثقافته العلمانية مكانا في قلبه لهذا التصور الروحي للحياة الأخرى، فهو يتشبث بقيمته الإنسانية الكبرى التي تجعل منه إنسانا كامل الإنسانية ومسؤولا عما يفعل أمام ضميره ووحدها قيم الصفاء والطهر تخلق جنته أو ناره...

هذا في الغرب العلماني. أما عندنا في الديار الإسلام وأمة الصلاة والصيام والقرآن والتدين والنصيحة والعدل والحق، حيث تردد الموعظة الدينية كل دقيقة على مسامع الجميع هيلمان التقوى والفضيلة وخير أمة أخرجت للناس، فإن الدوس على الحقوق باسم القانون والتزوير والكذب والتبريرات الواهية ونصرة القوي على الضعيف وأكل أموال الناس بالباطل، فهي أمر واقع نعيشه كل دقيقة وكل حين، حتى أصبحت تلك الأفعال سلوكيات عادية وليست المظالم، لأنها في عرف المتعاملين بها من نتائج الواقع المعاش، فالمدارة وكيفية التعامل مع الحالات والخدمة والإرضاء والمجاملة والرشوة والفساد هو القاعدة العامة التي تحكم عالمنا الصغير؟

الحكمة من هذا المقال ليست بالدرجة الأولى الدفاع عن المتضررين، بقدر ما هي مرتبطة بمعنى العدل والعقل والحق والحقيقة، فالمثل منها هو ربط التاريخ ببعضه والأحداث والوقائع ببعضها البعض أين ما كانت في بقاع المعمور. فالنزاهة والشجاعة في الجهر بالأحكام تتطلب مناخا ديمقراطيا وقضاء مستقلا وقضاة نزهاء.

لقد قال أحد الحكماء "أعطوني قيما نزيهة وعادلة أعطيكم أمة متحضرة"، وأقول "أعطوني قضاء مستقلا نزيها عادلا، أعطيكم بلدا متحضرا ومتطورا وديمقراطيا".