لقد أظهر المجتمع المغربي من خلال مقاطعته لمنتوجات محددة نضجا وانضباطا أبهر الكثيرين، جعلت منه استثناء في العالم العربي والإسلامي ومادة دسمة لوسائل الإعلام بكل تفرعاته. إنه حدث تاريخي غير مسبوق. فالمقاطعة مسألة مشروعة وحركة حضارية تعكس تطور المجتمع وقدرته على الإبداع ورسم معالم مرحلة جديدة وذالك لاعتبارين:
- إن هذا الشكل الاحتجاجي الراقي قد أعاد الصراع إلى مجراه الحقيقي وهو الصراع الذي انبنت عليه أهم النظريات السياية والاقتصادية. أي بين الرأسمال الإحتكاري وبين الطبقة الفقيرة من الشعب .
- تجاوز المقاطعة للحسابات السياسية التي أراد البعض إلباسها إياها.
- التجاوب الواسع والغير المسبوق مع هذه المقاطعة. وهو أمر لاينبغي حصره في خانة ردة الفعل بل نتاج صحوة ووعي أصبح يتملس طريقه ويترسخ شيئا فشيئا داخل المجتمع. ومن جهة أخرى، فإن الأمر يشير إلى وجود عطب مرتبط بالفعل المؤسساتي. إنها إشارة ينبغي التقاط مغزاها وبالتالي فالإجابة أصبحت مطلوبة بسرعة وبدون تسرع أو تعصب.
لكن ما ورد على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة بعد أسابيع من المقاطعة يبقى كلاما مبهما وغير دقيق مع احترامي للرجل مهما كان الاختلاف معه. فبدل البحث عن أصل الداء وجدناه يجتر الرواسب القديمة على شاكلة العبارة القديمة كل ما من شأنه. لكن ما أثار انتباهي نقطة في غاية الأهمية، حيث أكد أن الحكومة ستعيد مراجعة القانون وهو تصريح يوحي بان مدرسة جديدة في العلوم القانونية يتم الإعداد للإعلان عنها، ومن ثوابتها المزاجية وردة الفعل وكثرة الغضب. وهنا نتساءل كيف تنشأ القوانين؟ ومتى نكون في حاجة الى القانون؟ أو لنقل ماهي الغاية من القانون وماهي أهدافه؟
اسئلة قديمة -نطرحها من جديد- ظهرت مند عهد فلاسفة اليونان والحقيقة أن هؤلاء رغم كثرة نقاشاتهم الحادة والمثيرة ورغم اختلاف أساليبهم وأدوات مقاربتهم للموضوع فهم متفقون على أن الغايات الأساسية للقانون هي تحقيق العدالة، وعلاقة تحقيقها هو شرط استقرار المجتمع، ومن أهم غايات القانون أيضاً" تحديد المعايير والضوابط والمقاييس التي يتم من خلالها اختيار القوانين الأفضل والأقرب لتحقيق تلك العدالة المنشودة"، ويرتبط بذات الموضوع أيضا علاقة القانون بالحق, أي أنه لا يكفي إصدار ترسانة من النصوص إن لم تكن قوانين عادلة تستجيب لأمرين اثنين:
- أن تكون هذه القوانين نابعة من إرادة شعبية ومصيبة للحق.
- أن لاتتأثر بالايديولوجيا. أي أن لا تلبس جلباب جماعة ما فتسقط في فخ الانتماء.
وبهذا التعريف المبسط فإن ما جاء في تصريح الحكومة هي أطروحة جديدة في علم وضع القوانين ستضعنا -إن هي رأت النور- دون شك أمام لحظة توتر جديدة اعتقدنا أن زمنها قد ولى، وأن دستور 2011 قد قطع الشك باليقين فيما يخص صيغة التعاقد بين المواطن والسلطة. وأن هذه الحركية الجديدة تشكل دعامة جديدة للمفهوم الجديد للسلطة وإثارة الانتباه إلى أن دولة الحق والقانون لا يمكنها أن تطيق وجود ازدواجية في الخطاب والممارسة. وأن القوانين لا تصاغ لتطويع المعارضين والخصوم السياسيين والمدنيين.
إن تصريح الأستاذ الداودي أمام البرلمان بأن هذه المقاطعة تريد العودة بالبلاد إلى زمن الشيوعية لا يمكن فهمه إلا في إطار الأصوات التقليدية التي كان لها دائما حضور على مر تاريخنا ودور في فرملة مسار الإصلاح والتغيير الحقيقي, أسواء لبست ثوبا إسلاميا أم ليبيراليا. وان أجوبته جاءت خارج سياق مطالب الشعب الذي يريد تحديد معقول للأسعار يأخذ بعين الاعتبار دخل الطبقات الضعيفة، والسوق الحر للتذكير لا يتعارض مع تدخل الدولة لتسعير هذه السلع بل هو من واجبها وهنا نحيل السيد الوزير على التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية وهو نفس المسلك الذي خطته دول غربية أخرى مثل فرنسا ايطاليا.. فلماذا لا نستورد هذا النموذج الليبيرالي الاجتماعي ما دمنا نقلد الغرب في كل شيء؟
ألم يحن الوقت كي تتحمل الحكومة مسؤوليتها وتضمن حرية عمل السوق بشكل فعال من خلال التأكد من وجود منافسة قوية تضمن أسعارا معقولة وأرباحا معقولة؟ بل متى سيتحمل رئيس الحكومة مسؤوليته وفق المادة 89 من الدستور التي تنصل على أن الحكومة مطالبة بتنفيذ القوانين الخاصة بالهيآت الدستورية ويتم تشغيل محرك مجلس المنافسة؟ أين هي الأموال التي وفرت من خلال إصلاح صندوق المقاصة؟ ألم يكن الأجدر أن يتم توظيفها في إطار ما يسمى بالعدالة الاجتماعية؟
أعتقد أن طرح مثل هذه الأسئلة جاء في ظرفية تعكس حاجة المغاربة الملحة لتحقيق الدولة الديمقراطية العادلة التي يشعر فيها الإنسان بإنسانيته والتي تحقق ما يسمى المواطنة الحقة. وهو مطلب صحي يستفيد منه طرفي الصراع ويساهم في فتح فرص التنمية للجميع دون تمييز وبدون عنتريات.