الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: البكاء على الحب الأميركي المفقود

دلال البزري: البكاء على الحب الأميركي المفقود

بعدما أمضينا عقوداً نحب أن نكره أميركا، نفرح لإيذائها، لضربها على يد بن لادن و"القاعدة"، ها نحن الآن نتوسل حبها. ونتساءل عن سبب كراهيتها لنا، وعن حبها الجديد لدول، مثل ايران، تنظّم تظاهرات شعارها الأوحد "الموت لأميركا". إنها غيرة من نوع خاص، بين شعوب وأخرى، حكومات وأخرى. غيرة جارفة، لا تجد مجالا للتساؤل عن سبب بحثنا في المسوّغ الذي يدفعنا لطلب حب كهذا. ولا عن حقيقة "حب" أميركا لإيران، أو كيفية هذا الحب: هل تحب أميركا إيران كما يحب الرومنطيقي محبوبته؟ هل هو حب خالص، فيه وفاء وتضحية وشراكة؟ هل هو حب متحرر من المصالح والحسابات الخاصة بالإدارة الأميركية؟

وغابت تماماً اسئلة أخرى: عندما كانت أميركا "تحبنا"، ماذا جنينا تحديداً؟ عندما كان النفط قضية أميركا الكبرى وكان المسؤولون الأميركيون يزورون دولنا، وهم مفعمون بالأمل بأن لا نقترب من إسرائيل... بماذا أفادتنا أميركا تحديداً؟ ماذا أضاف "حبها" لنا في مسيرتنا خلال العقود الماضية؟ ثم ماذا يعني أن "تحبنا" أميركا؟ أن ترضى عنا لأننا نمشي بمشروعها؟ أو لأننا قنعنا بهيمنتها ونحن سعداء؟ أو أننا حفظنا مصالحها، أو دافعنا عنها؟

في مجال المقارنة بين حب اميركا لإيران وكراهيتها لنا، يرصد المراقبون والمحللون العرب أسباباً وفي قلبهم أمنية واحدة: أن نقتدي بالطريقة الإيرانية للإيقاع بالمحبوب الأميركي. بعضهم يرصد جانباً والآخر ملمحاً، ولكنهم في مجملهم متفقون على نتيجة المقارنة بيننا وبين الإيرانيين: أولا لأن الإيرانيين لديهم "مشروع"، ونحن لا. ولأن الايرانيين يملكون أيضا أوراق ضغط ونحن لا: ورقتا النووي والأذرع الإقليمية في دول عربية بعينها. ولأن لإيران قراراً واحداً، فيما نحن مشتتون بين دول ذات قرارات متناقضة، وغالبا ذات تنافسات مهْلكة أو عداوات صميمية. ولأن للعرب السنّة دوراً في الإرهاب، بدءا ببن لادن وانتهاء بـ "داعش"... إذ "خلطَ" الأميركيون بين الأقلية السنّية العنفية وبين الغالبية المسالمة من السنّة  العرب.

والنتيجة العظيمة التي يخلص إليها الغَيارَى المقارِنون، أنه علينا أن نفعل مثل الإيرانيين لكي تحبنا أميركا. علينا اجتراع مشروع ينافس المشروع الإيراني ويقارعه، علينا أن نوحّد كلمتنا ونعيّن قيادة واحدة لهذه الكلمة المشروع. علينا أيضا أن نخترع لأنفسنا أذرعاً تضاهي الأذرع الإيرانية؛ أي أن نخلق مليشيات طائفية سنّية، أو أقلوية تكون "أوراق ضغط" في مشروع حب أميركا لنا، وأن نستنكر بشدّة الخلط الذي يقيمه الأميركيون بين الاقلية السنّية المتطرفة وبين الغالبية غير المتطرفة...

هذه الحالة النفسية من طلب الحب تنطوي على مغالطات عميقة. فالمسألة بين إيران والولايات المتحدة، بل بين أية دولة وأخرى، ليست بطبيعة الحال قضية حب أو كراهية. بل مصالح واستراتيجيات وحسابات وأوراق. ثم أننا لو أردنا إتباع النهج "العاطفي" ذاته، فعلينا أولاً الالتفات إلى أنفسنا نحن: علينا أولا أن نحب أنفسنا، وأن نحب بعضنا البعض،، وبعد ذلك نبحث في حب الأمم الأخرى لنا. وإذا كان الموضوع يتعلق بـ "البرنامج"، ووجوب إيجاد برنامج، فذلك من أجل أنفسنا نحن، قبل أن يكون من أجل حب غيرنا لنا. "البرنامج" العتيد هو أكثر ما تحتاجه شعوبنا؛ برنامج ينظر إلى حاجاتها ومصالحها ومستقبلها. أما "الأذرع" على الطريقة الإيرانية، فتلك طريقة تخريبية في علاقات الأمم ببعضها. لا يشرفنا كثيرا أن نحاكيها، أن نقتدي بها. أن نفتعل انقسامات مذهبية ونسلحها بهدف تدمير مكوّنات "عدونا" وجارنا. ولا نملك أصلا الطاقة على ذلك، ولا ربما الوقت. أما "وحدة الكلمة"، فهي شأن ضروري لمخاطبة الأمم الاخرى، ولكنه حيوي بالدرجة الأولى بالنسبة لنا: دولنا، طوائفنا، أحزابنا، الحاكمة منها والمعارِضة، أحياؤنا، مؤسساتنا، وكلها تخوض حروبا أهلية طاحنة، حامية وباردة... كل ذرّة من ذراتنا تحتاج الى التوحّد مع الأخرى، وهذه شروط نهضتنا، قبل ان تكون شروط "حب" أميركا لنا.

أما "الصورة" التي كوّنها الأميركيون عن إسلام الغالبية العربية السنّية، والتي خلّدتها عملية 11 شتنبر الإرهابية، وما تلاها من عمليات "داعش"، الأكثر استعراضية... فلا نلوم غير أنفسنا: حتى هذه اللحظة، لم يجمع علماؤنا ومسؤولونا ونخبنا على نقد جذري لفعل الإسلام الإرهابي كما يجب أن يكون عليه النقد. الكلمات التي ترمى هنا وهناك على المنابر والمؤتمرات، تلك الكلمات الأكثر التباساً، أحياناً، من خطاب الإرهاب الإسلامي نفسه... لن تقضي لا على الفكرة الإرهابية، ولا على المنابتْ الجديدة التي يمكن أن تخرج من أرضنا بعد كل عملية أمنية ناجحة ضدها. قبل أن نتخلص من "صورة" هذا الإسلام، علينا تحرير أنفسنا في قراءتنا لإسلامنا؛ ولا يفيد طبعا المقارنة بين إرهاب إيران وإرهابنا. أولا لأنها لغير صالحنا، على مستوى الصورة، فالإيرانيون أكثر تدبّراً منا؛ ولأننا نحن أنفسنا، مع إيران، محبوسون بأغلال هذا التفسير الحرفي للإسلام الذي يسهّل على كل نواة إرهابية ان تستمد منه أركانها.

بكاء الرجال العرب على أطلال الحب الأميركي المفقود يتناقض كلياً مع ذكوريتهم الفائضة. فهل تكون تلك الذكورية مجرد واجهة؟ لا غير؟

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)