"لقد صعد هو إلى السماء وازدادت في أعيننا، مرة أخرى، قامته طولا، فيما نحن هنا نحاول أن نخترق الحجب لنعيد اكتشاف ملامحه، لعلنا نستعيده، أو يعود إلينا.. على الأقل، كي لا نبقى صغارا"؛ هذا ما قاله الروائي أحمد الهرادي في حق الزعيم الاتحادي السي عبد الرحيم بوعبيد، كما يناديه أصدقاوه، تلك القامة الوطنية التي عرفت دائما كيف تمشي في الأسواق، وكيف تعلن انتماءها غير المشروط، وغير الانتهازي، لقضايا الوطن.
لم يركب عبد الرحيم بوعبيد على صندوق انتخابي ليعرف الجميع أنه رجل دولة، ولم يحول لسانه إلى طاحونة كلام يرمى على عواهنه ليثبت بأنه "يتبورد" على الآخرين الذين لا يجمعهم به خندق "الحزب" أو الحكومة. كان الرجل، لمن يعرفه، يتحدث أمام الجميع بتؤدة كمن يسير فوق الغيم. كما أنه ينصت ويستغرق في الإنصات، فيجبر الآخرين على تعلم درس الصمت الكبير الذي يسبق أي كلام.
لقد كان عبدر الرحيم بوعبيد، حتى بالنسبة لأشد معارضيه، رجل دولة ليس بمنطق "بنكيران" الذي فضل الاختباء وراء المؤسسة الملكية ليتحول- قسرا- إلى رجل دولة، بل أكثر من ذلك فعل كل ما بوسعه ليتحول إلى واق من الاصطدام، وليضع مثل أي كاهن عتيق عنق شعب بكامله على مذبح المرحلة.
إن رجل الدولة هو الذي يعيش في تصالح تام مع الشرعية الديمقراطية وثقافة الإنجاز، كيفما كان موقعه، سواء أكان في الأغلبية أم في المعارضة. وهذا هو ما يترجمه المسار الذي قطعه عبد الرحيم بوعبيد رغم كل التقلبات السياسية التي طغت على المغرب، على امتداد 4 عقود. فما أحوجنا إلى هذا الرجل الذي عرف متى يقول لا، ومتى يقول نعم.. وعرف كيف يدافع بجدارة عن وطنه في المحافل الدولية، في "إيكس ليبان" و"مدريد" حتى أن إدغار فور شبه انتقاده للسياسة الاستعمارية، ودحض مبرراتها وأهدافها، بـ"الحجج الديكارتية".
إننا بحاجة إلى رجل لا يستأسد على جيوب المواطنين وقوت يومهم، ولا يتباكى أمامهم ويضعهم بين جهنم وجهنم. ذلك أن عبد الرحيم بوعبيد أرسى، عبر توظيف معرفته الاقتصادية وقدراته العقلانية الخلاقة، الملامح الكبرى للمؤسسات العمومية وهو يتحمل أكبر مهمة حساسة في المغرب المستقل وهي وزارة الاقتصاد الوطني، كما شارك في إرساء دولة القانون بعد صدور ظهير الحريات العامة، وإعداد النصوص الأولى للانتخابات التشريعية. إنه عبد الرحيم يبدع في الممكن، ولا يتطاول على الأرزاق، ولم يكن يأتمر بإملاءات "البنك الدولي" التي سبق أن قادت البلاد إلى السكتة!
إن رئيس الحكومة الحالي بعيد كل البعد عن أن يصبح رجل دولة، لأنه يعتبر أن نتائج صناديق الاقتراع أقوى بكثير من ضرورة احترام البنيان والهندسة الدستورية. فهذا يتطلب رجل دولة حقيقي عارف ومدرك لما تريده البلاد وما يبغيه الوطن وقواه الحية. كما أن رجل الدولة لا يعلن تبعيته، لا لمرسي ولا لأردوغان ولا للحاكم بأمر الله الفاطمي! .. بل لـ"ثوابت الأمة". رجل الدولة مطلوب منه الإنصات العميق وواجب التحفظ والعمل كثيرا في صمت، لتهييء البلاد حتى تكون قادرة ومؤهلة للتناغم مع الأوراش المفتوحة. رجل الدولة لا يفتح البلاد على مخاطر غير محسوبة.. ولا يضع حزبه الملتحي على كفة والوطن على الكفة الثانية. رجل الدولة لا يقهقه عاليا، مثل "عوالم الغاردن سيتي" ليثبط عزيمة غرمائه، ولا يلعب "طايكوك"، ولا ينتعر بالنعرات والعصبيات. رجل الدولة هو من قال فيه أبو بكر القادري، رفيق دربه، "كان يتحلى بنوع من التوازن ما بين فكره السياسي وفكره الوطني، وهذا لايتوفر عليه إلا القليل من السياسيين، فعبد الرحيم بوعبيد شخصية وطنية قبل كل شيء، ولكن وطنية عبد الرحيم تعرف كيف تصلح السياسة، وتماشيها، وتستفيد من أحداثها وتطوراتها، وإذا كان عبد الرحيم قد تدرج في التطورات السياسية التي عرفها المغرب، ويأخذ شكلا ربما يختلف عن الشكل الذي قبله، لكن عمقه الوطني لم يكن يعرف التبدل، فشكل التصرف ومواجهة الأحداث، كان يبرز عبقرية عبد الرحيم بوعبيد رحمه الله، لقد كان شخصا فريدا، لكنه بالإضافة لهاتين الخاصيتين، كانت له خصال أخرى، في طليعتها الشجاعة. فعبد الرحيم كان شجاعا، يأخذ المواقف بشجاعة• ويعرف كيف يتحمل المسؤولية، بكل قوة وصدق• ولذلك لم يكن عبد الرحيم لتغلبه السياسة، بل كان هو الذي يغلب السياسة".
لقد آمن عبد الرحيم أصدق ما يكون الإيمان بالنضال السياسي السلمي وسط الجماهير، وبأن المعارضة الديمقراطية التي لا تهمها المقاعد ستكون أجدى للوطن و لمصلحة الشعب. لذلك لم يكن يأبه كثيرا لحملات التيئيس التي تنعت خيار النضال الديمقراطي بأقبح نعوت الانحراف و الانبطاح، ولم يكن يلتفت إلى تلك الطوباويات العقيمة التي تحلم بديمقراطية تنزل من علياء السماء بزينتها ونزاهتها. كما أن الذين عرفوا بوعبيد أجمعوا، مثلهم مثل الذين خاصموه، على سمو خصاله وعلى شموخ قامته ، فقد كان المناضل الصلب، وكان الرجل النزيه، وكان الزعيم السياسي الذي يجمع بين الوطنية المنفتحة و الاشتراكية الديمقراطية، وكان القائد الوطني الذي يخوض حرب القلم بحزم، ويفاوض خصومه ببراعة، و يرافع في المحاكم بفصاحة، ويقود سفينة المعارضة الاتحادية بمهارة وبصيرة.
إن عبد الرحيم الذي استحق، عن جدارة، لقب رجل الدولة، كان في المواقف الصعبة يقف قويا وصلبا. لم يكن يستدعي التماسيح ليختفي وراء دموعها، ولا العفاريت ليمسح أخطاءه في دخانها. كان يتحمل المسؤولية كاملة بصدق وصلابة، كما كان يتسم ببعد النظر وتخطي الأحداث والتحكم في خيوطها الخفية، بل لا يخجل من اتخاذ موقف إذا كان مقتنعا بوجاهته، حتى لو كان ذلك على حساب حريته.
لم يكن عبد الرحيم زحفطونيا وما ينبغي له، ولم يكن معنيا إلا بإرضاء هذا الوطن الكبير الذي يجمعنا؛ إنه رجل فوق الحزب.. وفوق المصلحة الحزبية، مع الحزب في نضالاته من أجل وطن أكثر ديمقراطية، وأقل ظلما وعسفا. ولذلك استحق احترام الجميع، حتى الخصوم.. وحتى الملك الذي سبق أن أودعه السجن بسبب موقفه غير المهادن من الصحراء.