الأربعاء 24 إبريل 2024
مجتمع

الباحث الإجتماعي بورقيا على خلفية "زيرو كريساج": لا أحد يولدُ مجرما...

الباحث الإجتماعي بورقيا على خلفية "زيرو كريساج": لا أحد يولدُ مجرما...

بعد إطلاق رواد مواقع التواصل الاجتماعي المغاربة، لما اصطلح عليه بـ (حملة زيرو كريساج) التي تلت حملة (زيرو ميكا)، برز الحديث عن مشكل الأمن بالمغرب وتزايد حالات الإعتداء على المواطنين من أجل السرقة، وهو مشكل يعيد النقاش حول المقاربة الأمنية لهذه الظاهرة وسبل محاربتها، ويرى العديد من المتخصصين في علم الإجتماع، أن المقاربة الأمنية يجب أن يوازيها العمل على معالجة العديد من الظواهر الاجتماعية والنفسية التي تنتج عنها هذه الآفة المُهددة لأرواح وممتلكات المواطنين.

"أنفاس بريس" تنقل لكم وجهة نظر ورأي الصحفي والباحث في علم الاجتماع عبد الرحيم بورقيا المقيم في فرنسا..

"تابعت النقاش الدائر حول تذمر المغاربة من المجرمين والاعتداءات من أجل السرقة، حتى أضحت هذه الممارسات معهودة وتدخل في واقعهم اليومي. إن فهم هذه الآفة يستوجب ربط ما هو (اجتماعي - نفسي) بما هو (سياسي- اقتصادي - قانوني). وسأنطلق من فكرة القاعدة التي تقول: "لا أحد يولد مجرما"، ويأتي بعد هذه القاعدة مباشرة سؤال جوهري: كيف ولماذا يُصبح الفرد مجرما !!؟؟.

السؤال "لماذا" لا يطرحه العديد من الباحثين، بل يركزون على سؤال: كيف ؟ وغالبا ما يتكلف بالجواب على هذا السؤال المؤرق السياسي وعالم النفس. إذ يبقى السؤال الذي يتطلب بحثا عميقا وجادا: لماذا ينتهي فرد أو مجموعة من الأشخاص إلى فعل الإجرام كممارسة، ليصنفوا ضمن زمرة المجرمين المنبوذة في كل الثقافات والمجتمعات السوية !! ؟؟.

دائما استهل قراءتي بمنظور ماركسي صرف ألا وهو أن الإجرام يمكن اختزاله في الغضب والاحتقان و رد فعل عن  التهميش الاقتصادي والاجتماعي وهي أمور تعاني منها فئة من المجتمع، يصفها الكثيرون بالفئة الهشة اجتماعيا. في نظري لا يجب أن ينظر إلى هذه الآفة فقط كجنوح وعدم قدرة نظام سياسي واقتصادي ومجتمعي على توفير متطلبات أساسية لشريحة معينة من مكونات المجتمع، أو وعدم تمكنه من حسن الإصغاء لهذه الفئة ودمجها، لأن الأمر غير منحصر في  رد الفعل على الهشاشة والعيش غير الكريم، بل يتعداه إلى مُعطى واضح يُعرى فشل منظومة كاملة، فانعدام التوازن الاقتصادي وضعف الإمكانيات وقلة ذات اليد هي المحركات الأساسية لهذه الآفة.

يجب الانتباه في هذا السياق إلى فكرة أزلية تقول أن العالم الذي نعيش فيه منقسم إلى: ( الذين يملكون كل شيء) و(الذين لا يملكون أي شيء) على اختلاف النسبة داخل المجتمع، وهذا ما يولد الحقد والغضب، لأن عدم توفير متطلبات أساسية مشروعة لفئة معينة في المجتمع، يؤدي إلى الاحتقان وتزايد العنف، وخصوصا إذا كانت هناك فئات تنعم برغد العيش أو بحياة أفضل وأكثر رفاهية، بعيدا عن الحرمان، وهذه خلاصات "دوطوكفيل" حول سقوط النظام إبان الثورة الفرنسية ونوردها كنموذج للمقارنة والتحليل، وقد توجه بعض باحثي وعلماء الاجتماع في دراساتهم وتحليلهم للظاهرة إلى مسألة: الربط بين الحرمان والفقر والعنف. الأمريكي "تيد غور" ركز على عدم تحقيق التطلعات التي يصبوا إليها أشخاص من فئة مجتمعية وتنامي العنف والإجرام، كما أكد على التهميش الاقتصادي كمحرك أساسي للعنف. أما المتخصص في علم الإجرام الفرنسي "لوران موكيلي"، فيرى أن تنامي الإجرام بين صفوف المراهقين والشباب إبان نهاية الخمسينات، ارتبط بالازدهار والتطور الاقتصادي الذي شجع على بروز مجتمع استهلاكي". هنا كذلك نجد منطق التهميش والحرمان الذي يطال فئة واسعة، لا تستطيع تلبية احتياجاتها داخل مجتمع استهلاكي. ولكي نجيب عن السؤالين الرئيسين بخصوص (الإجرام .. لماذا وكيف؟) لابد أن نشير إلى أن هناك العديد من الناس في كل المجتمعات، يعيشون الفقر والتهميش ولا ينخرطون في سلب ونهب المواطنين ولا يمارسون الإجرام. لذلك يبرز الخطاب والنقاش حول طبيعة المحيط والبيئة التي يتواجد فيها هؤلاء والثقافة والتربية والعادات التي نشئوا عليها، ودرجة تواجد دور الآباء والمربيين حولهم.

إن العنف والانقياد للإجرام ينشأ داخل بيئة محفزة ويصبح ممارسة/عمل كغيرها تخضع لعملية حسابية: ماذا سأجني وهل أنا مستعد للعقاب؟، وبالنسبة لأفراد ليس لهم أفاق في الحصول على عيش كريم وليس لهم مستقبل مضمون، فيعدُّ الانخراط في الإجرام حل من الحلول لكسب المال وتلبية الاحتياجات والمنفعة الشخصية الأنانية، التي تتحول إلى سادية أي التلذذ بتعذيب الآخرين وهو معطى نفسي خطير يوازي بدرجة كبيرة الاحتقان المجتمعي والفوارق الطبقية الشاسعة بين مكونات المجتمع.

وإذا أضفنا عامل آخر جد مهم وهو الرغبة في الحصول على مكانة داخل المجتمع (الحي أو الدرب)، مع انعدام الوعي والنجاح والتألق في المسار الدراسي أو المهني أو الرياضي أو الفني.. يصبح الإجرام لدى الكثير من اليافعين والشباب وسيلة لكسب الاحترام والمهابة. ولا يجب أن ننسى أن التعاطي للإجرام يعطي للمجرمين حسب منظورهم، أحاسيس قوية تعزز الثقة والفخر بالنفس بغض النظر عن الربح المادي.

من البديهي أن الإنسان يتناغم مع بيئته، ويتطور نفسيا وعصبيا وعاطفيا مع تفاعله مع محيطه، مما يحيلنا إلى وجود قيم متضاربة وتوجهات متداخلة حتى بين من نشئوا في نفس البيت ونفس الحي، فكل يتصرف حسب فهمه لذاته وسلوكه وتربيته واحتكاكه بالآخرين. وبالتالي فإن الاختلاف في التعبير والتنفيس عن ما يجيش داخل نفس ووجدان هذا وذاك، يجعلنا أمام ظواهر وحالات غير سوية تنتج العنف والإجرام. واعتقد جازما أن زاوية التهميش والإقصاء مسؤولة بشكل كبير عن هذه الآفة التي تقض مضجع المغاربة.

كما يجب أن نسلط الضوء على العنف المؤسساتي الخفي، المرتبط بالتهميش والبيروقراطية والرشوة والظلم وغياب واقع الإنصاف لكل مظلوم أو صاحب حق عام (التعليم.. التطبيب.. فضاءات ممارسة الرياضة والفنون..) أو خاص فردي (حقوق توازي الواجبات)، ومتى تم انتهاك هوية الأفراد الذين يعيشون الهشاشة، نصبح أمام تجليات للغضب والعنف والاحتقان ورد الفعل السلبي المرفوض قانونيا وإنسانيا، وأورد في هذا السياق تفسير "روبيرت ماكافي براون" حول هذا العنف المؤسساتي، الذي يتجاهل الأشخاص ويهمشهم وينكرهم، فبالنسبة لهذا الباحث المتخصص (المشكلة بنيوية)، لأن هناك من يستفيدون من التركيبة الاجتماعية الراهنة وينهمكون في توسيع الفجوة بينهم وبين شرائح المجتمع وتزيد من عدد الحانقين والناقمين. وهذا الأمر يربك المجتمع ويوضح أن هناك فئة غير سعيدة لكونها تعيش روحا وجسدا حياة متدنية داخل الأحياء "المنغلقة أو شبه المنغلقة"، وكذلك لاحتكاكها الدائم بالمنحرفين والمجرمين الذين يصبحون قدوة للآخرين خصوصا، الذين لم يتسرب العنف والإجرام لمسارهم في الحياة.

إن مجابهة هذه الآفة المجتمعية بشكل عقلاني، كفيلة بتحقيق المصالحة مع الذات والمجتمع، لذلك وجب العمل على تشخيص ومعالجة الأسباب الحقيقية وتجفيف مصادر الخلل الاجتماعي، ومن الأسس الكفيلة باحتواء الظاهرة ومحاربتها نذكر: المقاربة الأمنية والزجرية، التي تعرف نقصا في الإمكانيات التقنية والبشرية، التي يجب الاشتغال عليها وتعزيزها بالتكوين والإرادة البناءة، وتحقيق المساواة، ولا يمكن معالجة هذه الظاهرة إلا برفع الظلم والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية المصلحة العامة، وهي توصيات وقوانين ينقصها التنفيذ، لكي تنسجم مع روح العصر وتنعكس على استتباب الأمن بكل أنواعه، الذي يوازي الازدهار الثقافي والمعرفي والاقتصادي لبناء مجتمع متين وحضاري".