الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

د. عبد الوهاب تدمري: المشروع الديموقراطي الحداثي بين تغول الفكر الأصولي وتعنت الدولة المخزنية.. أي احتمالات ممكنة؟

د. عبد الوهاب تدمري: المشروع الديموقراطي الحداثي بين تغول الفكر الأصولي وتعنت الدولة المخزنية.. أي احتمالات ممكنة؟ د. عبد الوهاب تدمري
من حراك الريف الاوسط الى حراك الريف الشرقي إلى باقي الاحتجاجات في مختلف جهات الوطن، نفس المطالب الاجتماعية والاقتصادية، نفس الحضور الجماهيري المكثف والتنظيم المحكم الذي حرص على سلمية الاحتجاجات وسلامة الممتلكات الخاصة والعامة. نفس الشعارات التي تنهل من الذاكرة الجماعية بما تتسم به من خصوصيات محلية تحفز التضامن وتستنفر الشعور الجماعي الانتماء وبالمصير المشترك. نفس الحضور المكثف للشباب والحرص علي استقلالية قرار الحراك، في مقابل ضعف الحضور، إن لم نقل الغياب الشبه الكلي للأحزاب والنقابات والجمعيات.
من حراك الريف الاوسط الى حراك الريف الشرقي إلى باقي الاحتجاجات في مختلف جهات الوطن، نفس التعامل الحكومي الذي يتسم بالتردد والتصريحات المحتشمة والمتناقضة، من الاعتراف بمشروعية المطالب إلى الإنكار، ومن التخوين والاتهام بالعمالة للأجنبي إلى التشكيك في نوايا القائمين على الحراك الشعبي واتهامهم بعدم جديتهم في الحوار، والعمل على تبرير القمع والاعتقالات بالشكل الذي يؤكد خضوعها المطلق لسلطة وزارة الداخلية التي تؤكد كونها سلطة عليا تستمد نفوذها من الدولة المخزنية و تؤكد على علو سلطتها على سلطة الحكومة.
من حراك الريف الاوسط الى حراك الريف الشرقي إلى باقي الحركات الاحتجاجات الاجتماعية في مختلف ربوع الوطن، نفس المقاربة للدولة المخزنية التي تستبعد الحوار كآلية فضلى لحل النزاعات الاجتماعية بدعوى أن الحوار يجب أن يكون مع المؤسسات الوسيطة، التي تعلم جيدا كما يعلم الجميع، إنها لم تعد تحظى بثقة المجتمع، وان هذه الحركات الاحتجاجية أضحت منفلتة عن الدولة والأحزاب والنقابات، وانها هي من يتحمل المسؤولية فيما تعيشه هذه الوسائط من وهن وفقدان للمصداقية حتى أضحت جزء من الأزمة الشاملة وليس من الحل وكل ما ينتج عنها من احتجاجات جعلت الدولة المخزنية في مواجهة مباشرة مع غضب الشارع، مع كل ما يمكن ان ينتج عن هذا من ارتفاع لمنسوب الكراهية إزاء الدولة بعد أن فقد المجتمع الثقة في الوسائط والمؤسسات، التي كان عليها بدل ذلك واجب التدخل من أجل البحث عن إلىات بديلة للحوار.
نفس المقاربة القمعية التي تتمادى الدولة المخزنية في نهجها إزاء الاحتجاجات بدعوى أن الحوار مباشرة مع قيادات الحراك الشعبي هو خروج عن الدستور وعن الديموقراطية التمثيلية المغربية التي يقر الجميع أنها تعيش حالة وفاة. وأن الحوار المباشر حسب اعتقادها سيكون حافزا لأنتشار وتوسع رقعة الاحتجاجات. تتمادى الدولة المخزنية في نهجها القمعي دون أن تدرك أننا في زمن لا يمكن ان تشكل فيه المقاربة الأمنية والاعتقالات حلا لما يعيشه المجتمع من أزمات، والتي تبدو أنها تزداد تعقيدا بالشكل الذي سيهدد أمن واستقرار الدولة والمجتمع معا، حيث لن تجدي معها نفعا هذا النوع من المقاربات.
أقول قولي هذا لأني لم أكن يوما ضد مفهوم الدولة العميقة كآلية ملازمة لكل الانظمة السياسية في العالم تعمل على ضمان استمرارية الدول. تسهر علي حفظ السلم الاجتماعي واستقرار الدول والمجتمعات. تضع الاستراتيجيات الكبرى في الداخل والخارج وتتدخل من أجل تصحيح الاختلالات بتصوراتها الاستراتيجية عندما تتأزم الأوضاع. أو عندما تستشعر ارتفاع منسوب فقدان الثقة في الدولة ككيان دائم وليس في الحكومات التي تعتبر كيانات زائلة أو مؤقتة خاضعة لنتائج الانتخابات. تتدخل من أجل إعادة التوازن الضروري بين المجتمع والمؤسسات والدولة حتى وإن أدى بها ذلك إلى تغيير كلي في الآليات والاستراتيجيات، لأن قوة الدول واستمراريتها رهين بمدى استقرار وسعادة شعوبها وعدالة انظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أقول هذا لأني مع الأسف لم أستشعر وجود هذا النوع من الدولة العميقة لدينا، بل فقط مجموعات ضغط تلهث وراء مصالحها الخاصة، حتى وإن كان ذلك على حساب استقرار وسلامة الدولة والمجتمع.
لوبيات مازالت تشتغل بنفس الإلىات المخزنية العتيقة، بل تتمادى في التشبث بها رغم كل ما يعيشه المجتمع من أوضاع سياسية واقتصادية متفجرة، ومن تحولات سوسيو ثقافية تزيد من اتساع الهوة بينه وبين الدولة وما تمثله من مؤسسات فاقدة للمصداقية.
أقول هذا انطلاقا من مراقبتي الدقيقة لما تنتهجه المجموعات المتحكمة في مفاصل الدولة المخزنية العتيقة، وليس العميقة كما قلت ،من مقاربات منفعلة ومتغافلة لما يعيشه المجتمع من أوضاع مأزومة، ومن فقدان متبادل للثقة. سواء ما تعلق منها بالمقاربة الامنية التي حصدت في أقل من سنة المئات من المعتقلين والمعتقلات وحصارا أمنيا شاملا للكثير من المناطق بما يرجع بنا إلى عهد الدولة المستبدة القائمة على مفهوم الرعية وليس المواطنة.
أو ما تعلق منها بما يحضر في المطبخ السياسي من سيناريوهات تقليدية استعدادا للاستحقاقات المقبلة، في تجاهل تام لما يجري من أحداث وما يشهده المجتمع المغربي من توترات وأزمات كنتيجة موضوعية لما سبق من طبخات سياسية كما كان الشأن مع جبهة الدفاع عن المؤسسات أو الأحرار والاتحاد الدستوري والأصالة والمعاصرة...الخ، والتي سياخذ فيها حزب الاحرار مكانة الاصالة والمعاصرة الذي تخلت عليه الدولة المخزنية بعد أن فشل في تبوأ صدارة الانتخابات السابقة، والتي تصب كل مجهوداتها الآن في توفير شروط تبوء هذا الحزب للانتخابات المقبلة من أجل ترأس الحكومة وفق المقتضيات الدستورية، سواء بالتزوير أو التأثير على الناخبين، أو إن اقتضى الأمر الضغط على العدالة والتنمية من أجل عدم تغطية كل الدوائر الانتخابية.
لكن ما يتم إغفاله من طرف اللوبيات المتحكمة في مراكز القرار، هو أن حزب العدالة والتنمية يمكن أن يستجيب تكتيكيا لهذا السيناريو رغم ما يمتلكه من قاعدة شعبية تؤهله لتبوؤ صدارة اي استحقاقات مقبلة وبالتإلى ترأس الحكومة، لأنه يعلم أن الأوضاع الداخلية حإلىا بالمغرب وما تتسم به من أزمات وتعقيدات، إضافة إلى الوضع الدولي لحركات الاسلام السياسي التي تراجعت إلى الخلف نزولا عند رغبة داعميها التقليديين. وهو ما يمكن أن نفسر به كذلك الوضع الذي يمر به الحزب الآن، الذي يجمع بين رئاسة ضعيفة وشكلية للحكومة دون ان يتخلى عنها كليا، حتى يستفيد مما تتيح له هذا الموقع من إمكانيات لتقوية قاعدته الانتخابية وتثبيت وجوده في أجهزة الدولة. وبين المعارضة التي ينتهجها فريق الأستاذ بنكيران، وذلك في تكامل استراتيجي للأدوار التي تظهر الحزب أمام الشعب، في نفس الآن، في موقع الضحية.
كما يبدو كذلك أن هذه اللوبيات، بمقارباتها التقليدية سواء الأمنية أو السياسية منها، لم تستشعر بعد خطورة الأوضاع التي تجعل من إعادة سيناريوهات الماضي أمرا مستحيلا، وأن استمرارها بالشكل الذي عهدته سابقا لم يعد ممكنا، وأن تماديها في إعادة إنتاج الماضي لن يكون إلا مأساويا. خاصة وأنها بمقاربتها الأمنية، وما ينتج عنها من اعتقالات في شباب الحراك وحصار ممنهج للأصوات الحرة الديمقراطية المنتقدة للأوضاع، تكون بصدد إفراغ المجتمع من تعبيراته الديمقراطية والحداثية، في مقابل تغلغل حركات الإسلام السياسي التي سلكت أسلوب المهادنة مع الدولة المخزنية، مستفيدة بما يوفره لها وجودها من داخل المؤسسات ومن داخل ما يتيحه لها مبدأ إمارة المؤمنين من لوجستيك وامكانيات هائلة، يساهم في توسيع قاعدتها التنظيمية وفي توطيد هيمنتها الدينية والثقافية على المجتمع اولا وعلي الدولة لاحقا، وبالتإلى فهي خطوة تكتيكية إرادية إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام.
إذن فإلى أي حد يمكن اعتبار هذه اللوبيات المتحكمة في صناعة القرار من داخل المنظومة المخزنية قد استطاعت أن تستوعب ما يجري من تطورات وتحولات على مستوى المجتمع وما يعيشه من ازمات تهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي؟
ألم تدرك بعد أنه قد آن الأوان للمراجعة شاملة لنمط تفكيرها والبحث عن مقاربات وبدائل جذرية لشكل الدولة والسلطة التي شاخت بنياتها ولم تعد قادرة علي الاستمرار بالشكل التي هي عليه الآن؟ وأن ما نعيشه الآن؛ علاقة بواقع الأزمة المجتمعية الشاملة وتغول الدولة الحاكمة وتمدد حركات الإسلام السياسي التي أصبحت تهيمن على الكثير من مناحي الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية، كلها عناصر تهدد سلامة الدولة والمجتمع معا؟
ألم تعلم هذه القوى المتحكمة في صناعة القرار، ان ما تعتبره إنجازات لمقاربتها الأمنية والقمعية للاحتجاجات وما نتج وينتج عنها من اعتقالات للمئات من الشباب الديموقراطي، وحصارها لكل الأصوات الحرة والديموقراطية، هي إنجازات ظرفية مادامت شروط استمرارها قائمة وتزداد حدة ؟ كما أن ما تعتبره إنجازا سيرتد عليها إن هي أدركت أنها تفرغ المجتمع مما تبقى من تعبيراته الحداثية والديمقراطية التي حتى وإن بدت مجابهة ومنتقدة لتغول الدولة المخزنية ومطالبة بحق الشعب في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، الا أنها كذلك صمام امان في عدم انحراف المجتمع اولا والدولة لاحقا في اتجاه الاخونة والدعشنة، خاصة اذا ما استحضرنا الآن أن القوى الصامتة تكتيكيا المهيئة جماهيريا وتنظيميا ةماليا للانقضاض على السلطة اذا حصل ما حصل من انفجار شعبي شامل هي قوي حركات الإسلام السياسي التي يتناقض مشروعها السياسي الاستراتيجي، القاضي بإقامة دولة الخلافة مع كل ما هو ديمقراطي وحداثي، وحتى مع نظام الحكم الملكي أو العرش نفسه، الذي لا يستقيم بالنسبة لها إلا لله وحده، إعمالا للآية القرآنية في شأن الملوك. هذا حتى وإن ادعت تكتيكيا تبنيها لمبدأ إمارة المؤمنين وذلك من أجل الاستفادة مما يتيحه لها هذا المبدأ من إمكانيات هائلة لتثبيت وتوسيع سيطرتها الناعمة والمتدرجة على الدولة والمجتمع معا.
ألم تدرك بعد هذه النخب المتحكمة في مركز القرار انها كمن يلعب بالنار التي يمكن أن تحرق الجميع، أم أن مصالحها الضيقة والشخصية تعميها على رؤية الحقيقة المرة لواقع الازمة المركبة التي يمر بها كل من الدولة والمجتمع، مع كل ما يتهددهما من سقوط مدوي؟ خاصة إذا ما استحضرنا ما يعيشه محيطنا الإقليمي من نزاعات وخراب للدول والمجتمعات، تغذيها مصالح الدول الكبرى التي تشتغل وفق منطق لا وجود لحليف دائم ولا لعدو دائم، بل فقط مصالح دائمة.
انها فعلا مدركة لكل هذه المخاطر، وأن تماديها في هذا النهج القائم على القمع والاعتقالات منسجم مع ما تتسم به بنياتها التقليدية والمحافظة التي تلتقي فيها موضوعيا مع الاصولية الدينية، رغم ما تدعيه من حداثة ظاهرية. وبالتالي تشتغل بوعي من أجل تين الانتقال إلى الدولة الحاكمة باسم السلطة الإلهية، التي يمكن أن تشكل ضمانة لاستمرار مصالحها حتى ولو كان ذلك ضد المشروع المجتمعي الديمقراطي والحداثي الذي يسعى إلى إقامة الدولة الديمقراطية المتعددة الضامنة للحقوق والحريات، والتقسيم العادل للثروة والسلطة، والتي ترى فيها تهديدا لمصالحها وامتيازاتها. وبذلك تكون الدولة المخزنية المستبدة مستعدة للتحول إلى الدولة الحاكمة السالبة للحقوق والحريات والمناهضة لقيم الحداثة والمواطنة.
إذن هل يمكن ان نقول إننا الآن نعيش بداية مرحلة انتقالية، لكن إلى الخلف، من الدولة المستبدة والمطلقة كما عرفها ودافع عنها توماس هوبز، إلى الدولة الدينية الحاكمة باسم السلطة الإلهية التي انتقدها كل رموز فلاسفة العقد الاجتماعي في بداية عصر الأنوار رغم اختلافاتهم على مفهوم ومضمون هذا العقد؟
أم مازالت هناك قوى من داخل الدولة، مناهضة لهذا التحول، يمكن أن تتدخل في اتجاه تصحيح وتقويم الأوضاع؟ من خلال طرح حلول شاملة وجريئة، تقطع مع المنظومة المخزنية، والحكم المطلق، وما تمثله من سلوكات وممارسات أطرت لعقود من الزمن شكل الدولة والسلطة السياسية في بلادنا، والعمل على بناء الدولة الديمقراطية والحداثية بما يتطلبه هذا النوع من التفكير من استعداد للتخلي عن الطبيعة المخزنية للدولة وما تتسم به من فساد وريع سياسي واقتصادي، في مقابل الانفتاح على القوى والتعبيرات الديمقراطية والحداثية من داخل الدولة والمجتمع؟
في كل الحالات هل يمكن القول إن المشروع الديمقراطي والحداثي يتهدده الآن، أكثر من أي وقت مضى، استبداد الدولة المخزنية التي تضع نفسها فوق القانون الذي يعفيها من أي مسائلة، وكذلك بما تمارسه من قمع واعتقالات في حق نشطاء الحركات الاحتجاجية وحصار للفكر التنويري والنقدي من جهة، ومن جهة أخرى تغول الأصولية الدينية بشقيها الإخواني والسلفي في البنية الثقافية والروحية للمجتمع المغربي كحاضنة ضرورية لقيام مشروعها السياسي عندما تحين الظروف الداخلية والدولية للإعلان الصريح عن ذلك؟