Sunday 4 May 2025
سياسة

التوفيق ويسف: بين تجربة الإصلاح ووهم الإصلاح في الحقل الديني!

التوفيق ويسف: بين تجربة الإصلاح ووهم الإصلاح في الحقل الديني!

يعيش المغرب في الزمن الواحد أزمنة متصارعة، ومتقاتلة أحيانا. فإذا كان من المؤكد أن بلادنا قد اختارت، بإرادة رسمية، قرار المضي في رهان التحديث والبناء الديموقراطي، فإن من المؤكد كذلك أن تيارات فكرية وسياسية أخرى تعيش تحت سماء المغرب متمسكة بأن تجذبنا إلى الوراء بكل أشكاله الماضوية العتيقة، المتناقضة مع اختيارات البلاد الفكرية والسياسية. أمام هذا المعطى تتضاعف مسؤوليات الدولة والمجتمع. ويهمنا ضمن هذه المسؤوليات أن نخضع لمجهر النقد والتحليل بعض تجليات الحقل الديني الذي يعتبر بؤرة استراتيجية لإنجاح كل مشروع للإصلاح والديموقراطية في سياقنا العربي الإسلامي.
نفتتح مجهر النقد بسؤال دال:
هل يعيش الحقل الديني المغربي فعلا تجربة الإصلاح، أم وهم الإصلاح؟
ولأن الحقل مؤطر ببنيات وهياكل محددة المهام والوظائف، فالسؤال موجه أساسا نحو وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي يشرف عليها وزير مؤرخ وأديب قادم إلى السلطة التنفيذية من داخل المعرفة الجامعية، مسلح بمحبة الآداب والفكر والعلوم الإنسانية. كما يتجه السؤال في الآن نفسه إلى المجالس العلمية المحلية، والتي تعمل جميعها مبدئيا بمرجعيات دينية واضحة تحت إشراف أمير المؤمنين في أفق بلورة إسلام وسطي منفتح على العصر.
إن ما يدفعنا إلى طرح السؤال هو ما نسجله موضوعيا، ونحن نتأمل نتوءات المشهد الديني، إذ تبدو التناقضات صارخة. فهناك من جهة أولى ما يعطي الانطباع بأن الإدارات المسؤولة عن هذا القطاع، سواء داخل القطاع الوزاري، أو لدى أمانة المجلس العلمي الأعلى وفروعه، لا يهمها سوى أن تدبر الأمر الواقع بلا مشاكل بما يعني يسوق لفكرة أن كل شيء على ما يرام، وأن المغرب ينعم في الطمأنينة وراحة البال. والحال إن هذا مجرد انطباع الظاهر، إذ أن بلادنا تعيش يوميا على وقع التهديدات الإرهابية المتواصلة بدليل عدد ما يتم تفكيكه من خلايا نائمة يؤسسها «جهاديون» يجهرون بالولاء لدولة «سيدنا» أبو بكر البغدادي بعد أن حلوا بأرض الشام والعراق وليبيا وأفغانستان، أو يفكرون في الرحيل إليها. والفضل يعود في ذلك إلى نشاط الأجهزة الأمنية والمخابراتية. لكن ذلك لا يعني أننا في مأمن من الشر القادم. هنا تبدو محدودية المقاربة الأمنية مهما كانت نجاعتها ما لم تسند بمقاربة الإصلاح الفكري والديني وتمثل هذا الاصلاح من طرف مسؤولي الوزارة والعلماء. وهنا كذلك تبدو مسؤوليات مؤطري الحقل الديني الذين يديرون الأوضاع بصمت أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه مريب. وإلا كيف يمكن أن نفسر سكوت هؤلاء المدبرين عن بعض الانفلاتات الخطيرة التي يقترفها فقهاء الظلام في واضحة النهار بنزوع تكفيري يعلن الحرب على المرأة والفكر والفن والسياسة، وعلى فضيلة الاجتهاد والاختلاف؟ و كيف يمكن أن نفسر سكوتهم عن بعض أئمة المساجد الذين يتقاضون رواتبهم من المال العمومي، ومن امتيازات المهنة ليحولوا بيوت الله إلى «زاوية» لنشر الفكر الظلامي ضدا على إرادة المغرب، وإلى الدعاية الانتخابية لفائدة «الإسلام السياسي» السلفي والجهادي؟ وكيف يمكن أن نفسر سكوتهم عن الاختراقات العديدة التي تشهدها القطاعات الدينية الاستراتيجية، سواء في بنيات التعليم العتيق،  أو في وصفوف المرشدين الدينيين أو لدى القيمين الدينيين المكلفين بمهام الإمامة والخطابة، أو ضمن سلك المندوبين  الإقليميين والجهويين، المفروض أنهم يخضعون للضوابط المنهجية التي تحددها الوزارة نظريا في ما يدعو «إلى النظرة الإيجابية إلى ما يجري في الوطن والعالم بدل الجنوح إلى العدمية، وإلى فتح باب الأمل للناس وعدم اعتماد خطاب التيئيس، وإلى لالتزام بمنهج الوسطية والحياد».
بخلاف ذلك نعاين أن بعض هؤلاء لا يزال يخضع لمشيئة أقطاب الأصولية «الخوارج» الموغلين في التخلف، ومناصري الارتداد القادمين إلى ذلك من فلول الجهاديين، أو من أطر حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، يا حسرة !، الذين يمارسون خطابا مزدوجا مفارقا، مع الزمن الحديث وضده، ومع إمارة المؤمنين وضدها، ومع الديموقراطية وضدها في الوقت ذاته.
هذه التجليات جميعها تجعلنا نؤكد أن الحقل الديني، ورغم ما يتمتع به من اعتبار سيادي، وما يصرف عليه من ميزانيات ضخمة غير متاحة لباقي القطاعات الوزارية، لكنه لا يزال يعاني حقيقة من الانفلات والاختراق، أو من عدم القدرة على التحكم بتعبير أدق. فهل نظل شهودا على هذا الانفلات تاركين الأمر للأجهزة الاستخباراتية والأمنية وحدها مواجهة المجهول، أم أن الحاجة ملحة لمغادرة واقع تسويق وهم الإصلاح باتجاه ممارسة الإصلاح فعلا وخطابا؟
الإصلاح الحقيقي يبدأ بممارسة الإصلاح، بالحسم في من مع البلاد والديموقراطية والمستقبل، وفي من ضد الجميع، بما فيها ثوابت واختيارات البلاد المذهبية، ويبدأ كذلك بتفعيل ميثاق العلماء ومقتضيات الأمن الروحي، وبتبني سياسة تشاركية تدمج النخب المتنورة في مشروع الإصلاح، وفي إقرار خطط وقائية ناجعة. وإلا فقد نفاجأ  غدا بجيل جديد لن يكتفي بنسف الحقل الديني وحده، ولكن بنسف المغرب بكامل رصيده الحضاري، وبرسالته القائمة على نشر فكر التعايش والتسامح بكل أبعاده الروحية والدينية والفكرية المتجذر في تاريخنا العريق.
ذلك هو السؤال - الرهان!