حتى نخرج من الحماسة الزائدة، و التقوقع الميكانيكي على إطلاقياتنا، لندخل لمرحلة الهدوء، المفضي لاستقراء موضوعي أولي لما يجري بتركيا.
من المهم الانطلاق من معطيين، تاريخيين، يمكن أن ينيرا، جزء من ضبابية المشهد :
1- ليس كل من وصل للحكم عن طريق الانتخابات، تسمح له أصوات الناخبين بأن يمر لمرحلة السلطة المطلقة، و مركزة القرار و تغيير التوافقات العامة التي أنتجت المناخ الديمقراطي العام، و إلا فهتلر نموذج ديمقراطي ألماني، صعد عن طريق الصناديق الانتخابية، و مارس برنامجا نازيا، و قد جيش له أنصارا كثرا.
2- ليس كل تدخل للجيش في الحياة العامة، يعتبر بالضرورة انقلابا مدانا، ويستوجب الشجب كيفما اتفق، فهناك جيوش وطنية، عقيدتها دفاع عن سيادة شعوبها وعلى أوطانها، نموذجا : تدخل الجيش بقيادة سوار الذهب في السودان لإسقاط ديكتاتورية النميري، و بعدها تسليم السلطة للحركة الديمقراطية دون المشاركة فيها، هل هذا الانجاز التاريخي يعتبرا انقلابا ؟
استقراء هاتين المعادلتين، يفرض التخلص من إطلاقية الأحكام المسبقة لقراءة ماجرى.
عودة للتاريخ التركي، كان الجيش على طول فاعلا أساسيا في المشهد السياسي و تتقاسمه نزوعات عدة منذ عهد الانكشارية، كانت موحدة إبان حكم أتاتورك، و هي الجمهورية التي أرست معالم العلمانية التي تعيش ثمارها الدولة التركية الحديثة، إلا أن تسرب لوبيات جديدة للجيش التركي فرضت تشتتا واضحا في مراكز قوته : التبعية للناتو و الصهيونية كطرف، أنصار أردوغان و الإخوان طرف، أنصار غولن و أمريكا طرف، النواة الأولى العلمانية طرف، و حساسيات أخرى كأقليات.
إن جيشا تتدبدب عقيدته بهذا الشكل، لا يمكن إلا أن يضرب رقما قياسيا في الانقلابات، و ستتفاوت تحالفات مكوناته حسب الظرفية و المتغيرات الاقليمية، فلم يخلو عقد دون انقلابات تسبب فيها هذا الطرف أو ذاك، إلى درجة أن التحالفات تكون مبهمة و لحظية أحيانا بين الأطراف أعلاه.
و الملحوظ أن حمى الولاءات هاته تمتد أيضا لسلك القضاة، الشرطة، المخابرات، الدرك، المناصب السامية، أدرع المدارس القرآنية، المعاهد، المؤسسات الخيرية،... و كلما تمكن طرف من الوصول للحكم، يسعى لتصفية بقية الأجنحة، و التفاوض لتحييد البقية، لهذا أول ما قام به أردوغان بعد نزول الجيش ضده للشارع، لجوءه و بسرعة لإقالة حوالي 2700 قاضي، و اعتقال كل القيادات المشكوك فيها و غير الموالية له في بقية الأطراف، دون أدنى تفكير، من قيادة الأركان البرية، الجوية، الدرك، أسلاك العدالة،....
في مثل هاته الحالات، المضببة جدا، و بجيش تتنازعه أهواء الجماعات، لا يمكن التسرع بمناصرة عملية للهواة بهذا الشكل، وتنازع المصالح وسط الجيش بهذا الاحتقان، لا بذور فيه للحظة لأي تيار جارف بحمولة شعبية و ديمقراطية وطنية.
صحيح أن فتح الله غولن، أخطبوط يتغذى من المدارس القرآنية التي يتحكم فيها عن بعد، و لمجموعته الدينية "حركة حزمة" نفوذ قوي أيضا في الجيش، و المناصب العليا، وصلت حدة صراعه مع أردوغان، أن صرح غولن : "اللهمّ أحرِقْ بيوتَهم، وخرِّبْ ديارَهم"، ردا على قرار حكومة رجب طيب أردوغان بإلغاء ما يُسمّى "المدارس التحضيريّة" التي يديرها بتركيا، لكن هذا التجاذب لا يمكن أن تختلط به أرجلنا، والجيش تتنازعه كل هاته المصالح المتضاربة.
المعارضة النظيفة الديمقراطية و التقدمية بتركيا، كانت ناضجة و لم تتأخر في دفاعها عن الخيار الديمقراطي بتركيا، حيث نزلت مرارا و تكرار للشارع في مواجهة فساد و تفرد أردوغان بقرارات مصيرية لا تخدم مصلحة الشعب التركي، وورطته في أتون معارك إقليمية، جعلت كل حدود تركيا ملتهبة، و كانت واضحة أيضا في خيار رفض تدخل الجيش لفض النزاع مع أردوغان حول المشروع التركي المراد تطبيقه.
المحدد الأخير، فيما حدث، أن المتغيرات الإقليمية المستجدة بالمنطقة، أفضت إلى انهيارات عدة في استراتيجية اردوغان التفتيتية لكيانات المنطقة بمباركة الخليج، حيث غير بوصلته كليا مستجديا الحلف الروسي - الإيراني - السوري، مع تقدمه على الأرض، لتخفيف عدائه على حدوده الملتهبة، و تحييد الصهاينة بتوقيع اتفاقيةاستراتيجية و مذلة و إياهم.
لهذا طلبنا أن لا تتسرع القراءات و الأحكام الجاهزة، فأركان الدولة بتركيا مهزوزة و هشة جدا، تنهار في أي لحظة بانهيار هاته التوازنات الهشة، فما فائدة أصوات الناخبين إذا كانت الدولة منخورة من الداخل، و كل حاكم ينسج سلطته على قاعدة هاته التوازنات، وأردوغان نموذج صارخ في هذا السياق.
إن المطلوب من الشعب التركي و قواه الديمقراطية الحقيقية، إعادة بعث مشروع دولة قوية اقتصادية كما الآن بالطبع، و لكن على أساس تصفية لوبيات الفساد السياسي و الديني و الإداري و العسكري الذي خيم لسنين في هياكل الدولة، وإعطاء بعد وطني تحرري لعقيدة الجيش.
ملحوظة لها علاقة بما سبق : كانت نفس الأهواء و المصالح الضيقة و النفوذ، تتنازع أيضا جيش الانكشارية العثماني، تضارب المصالح و الفساد ما أدى إلى انهيار الامبراطورية العثمانية، التي انهارت أحلام أردوغان في إعادة بعثها.