ها هي ميديا الإعلام في الغرب، والشرق أيضاً، تموج بدعوات وادعاءات وإعلانات وأسرار، وأحياناً تجاوزات، ما برحت تشغل ملايين المتابعين آناء الليل وأطراف النهار، كل هذه الانشغالات تكاد تدور حول محور وحيد لا يزال يؤرق الضمائر في طول العالم وعرضه وتلخصه العبارة المبسطة التالية: «.. المرأة في عالمنا: دورها.. كرامتها.. مشاكلها في الماضي والحاضر وفي مستقبل الأيام».
والحاصل أن اجتاحت الولايات المتحدة، ومعها أقطار شتى من الغرب الأوروبي (فرنسا وإنجلترا مثلاً) أخبار ودعوات حملت في مجموعها عناوين تتصل بآفة سلوكية اسمها «التحرش بالمرأة»، وإهانة كرامتها كأنثى وكمواطن وكإنسان، وقد أفضت هذه الموجة التي ارتفع مدّها منذ الخريف الماضي، إلى إزاحة الكثير من نجوم مجتمعات الغرب عن مواقعهم التي طالما نعموا بها، ومنهم فنانون وإعلاميون وأكاديميون وبرلمانيون، إلى أن أصبح ثمة تنظيم نسائي مؤسس ولايزال ملء السمع والبصر ويحمل اسم المصطلح (أنا.. أيضاً) (Me Too).
ورغم ذلك، ثمة جانب آخر، يزدهي في تصورنا بشرف السلوك ورقيّ العطاء من جانب المرأة، وهو بعيد بكل المعاني عن حكاية التحرشات والمداعبات والمطاردات التي لا تزال تلحّ على أفئدة الناس في هذه الأيام، وهنا نتحدث عما وصفته الكاتبة الأميركية مارغو لي شترلي في كتابها «ثلاث نساء عظيمات» بـ «الشخصيات المستورة» (أي بمعنى المخبوءة أو المجهولة التي لم يكد يعلم بها الكثيرون).
الكاتبة المذكورة من فئة (الأفرو - أميركان) الملونين ذوي الأصول الأفريقية السمراء بالولايات المتحدة، وحديثها يدور حول ثلاث من بني جلدتها السمراء أيضاً، لا بوصف الثلاث المذكورات، لاعبات رياضة، ولا راقصات في مغاني لاس فيغاس ولا ممثلات في استوديوهات هوليوود، وإنما تتحدث عن ثلاث نساء أميركيات من أهل الدرس والعلم التطبيقي والخبرة الأكاديمية الرفيعة، ومن ثم التخصص في واحد من أهم وأدق فروع العلم في العصر الحديث وهو علم الرياضيات.
الكتاب الذي يحمل أيضاً عنواناً فرعياً وهو «تحطيم الأنماط التقليدية وإيجاد حلول للمعادلات»، يروي ببساطة سائغة فيما نتصور قصة الثلاثي: دورثي ﭭون وماري جاكسون وكاترين جونسون ثم زميلتهن كرستين داردن اللاتي ينتمين إلى «زنوج» أميركا، ممن نبغن في علم الرياضيات، وارتفع شأنهن في تخصص علوم الفضائيات، ومن ثم جاء إسهام النابغات الثلاث أو الأربع، وبدرجة بالغة التأثير، في السباق الذي احتدم أواره منذ ستينات القرن الماضي بين أميركا وغريمها الخطير آنذاك، الاتحاد السوفييتي.
يتأمل القارئ غلاف هذا الكتاب، يطالع سحنة كل من الأميركيات – الأفريقيات: بديهي أن كلاً منهن كانت تنتمي إلى عقود النصف الأخير من القرن الماضي، يسرح القارئ المتمعن في سيناريو حياة كل سيدة من هذا الثلاثي-الرباعي النابغ، كل واحدة منهن نشأت بداهة في حقبة الأزمة التي كانت تعيشها جموع السود في أميركا، وحملت في أيامهن شعار «المطالبة بالحقوق المدنية» لصالح المواطنين السود في الولايات المتحدة. ولم يكن الأمر سهلاً ميسوراً، وإنما كان هناك ضرائب يتعين على السود أداؤها، لا على شكل أموال بل على شكل معاناة وإهانات وتضحيات ما بين معاملتهم مضاهاة بالكلاب في المحال العامة إلى اغتيال زعيمهم الكبير مارتن لوثر كنغ (1929- 1968).
ورغم معاناة النشأة وشظف الحياة وإهانات المجتمع المحيط، فقد أمكن كلاً منهن أن تشق الطريق الوعر القاسي إلى دراسة التخصصات العلمية منذ أربعينات القرن الماضي، ومن ثم انفتح الباب بكل ضيقه ومحدوديته أمام السمراوات النابغات للالتحاق بدوائر الفضائيات الأميركية: شاركن أولاً في تصميم قاذفات القنابل التي كان لها وزنها وأهميتها في انتصار أميركا والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، في حين تألقت مشاركتهن العلمية والعملية في دوائر وكالة «ناسا» المتخصصة في علوم وتطبيقات الفضاء وخاصة في غمار احتدام الصراع العلمي- التكنولوجي بين واشنطن وموسكو بعد نجاح الغريم السوفييتي خلال عام 1957 في إطلاق أول قمر اصطناعي إلى أجواز الفضاء الخارجي ليحمل اسم «سبوتنيك»، وكان يحمل معه شعلة من الغيرة العلمية والقومية والعقائدية اعتملت في نفس الغريم الأميركي واقتضت مزيداً من الجهود العلمية - التقنية السوبر - حثيثة من جانب السمراوات النابغات اللائي لا تزال سيرتهن حاضرة في النصب التذكاري بضاحية «لانغلي» القريبة من العاصمة واشنطن، حيث يقع مقر المخابرات المركزية الأميركية.
عن: البيان الإماراتية