الأحد 8 سبتمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: داعش.. هل هي مرحلة انحسار أم تغيير في الأدوار؟

عبد القادر زاوي: داعش.. هل هي مرحلة انحسار أم تغيير في الأدوار؟

منذ مطلع سنة 2016 دخلت داعش مرحلة التراجع، وبدأت تفقد تدريجيا أجزاء واسعة من الأراضي التي استولت عليها في كل من سوريا والعراق، لتضيق كثيرا الرقعة الجغرافية التي في حوزتها، وتجف العديد من مصادر تمويلها.

محطات بارزة وفارقة تم تسجيلها في هذا السياق بدءا من الانسحاب من المدينة الأثرية السورية تدمر تحت ضربات جوية روسية مكثفة، مرورا بمدينة الفلوجة العراقية نتيجة هجوم الجيش العراقي وميليشيات الحشد الشعبي، وصولا إلى مدينة منبج السورية على الحدود التركية إثر هجوم قوات سوريا الديمقراطية الكردية مدعومة بغطاء جوي أمريكي.

إن هذا التراجع المريب، الذي حصل في معظم الأحيان دون مقاومة كبيرة من التنظيم المتطرف، باستثناء محاولة مشاغلة الخصم لتأمين انسحاب الوحدات المقاتلة يطرح أكثر من علامة استفهام. فقد رأى البعض فيه مؤشرا على دخول داعش مرحلة التقوقع والانحسار، فيما ارتاب آخرون من عدم تسجيل خسائر بشرية فادحة، وذات وقع إعلامي في صفوف مرتزقة التنظيم واعتبروا ذلك مقدمة لتغيير الأدوار.

وحدها معطيات الواقع كفيلة بالحسم إلى حد كبير بين الأطروحتين. فهذه الوقائع تقول إن داعش تلقى ضربات جوية موجعة جعلته غير قادر على استخدام أسلوب الاجتياح الاستعراضي في قوافل كبيرة تحصد الأخضر واليابس في طريقها، كما كان يفعل قبل سنتين، فاستعاض عن ذلك ب :

- عمليات انتحارية تقوم بها ذئاب منفردة، أو خلايا صغيرة بإمكانها التحرك بسرعة وسهولة كما حصل في الهجوم على مقر المخابرات الأردنية في مخيم البقعة شمال عمان، وفي الهجوم الذي تعرض له مخفر الجيش الأردني في منطقة الرقبان في أقصى شرق البلاد على الحدود مع سوريا، وكذلك في الهجومين المتتاليين اللذين تعرضت لهما منطقة القاع اللبنانية في أقل من 24 ساعة، بالإضافة إلى الهجوم المريع في مطا إسطنبول.

- نقل خيرة مقاتليه في عملية نزوح جماعي إلى مناطق توتر أخرى لتأجيج نيران الصراعات فيها أكثر، وخاصة ليبيا حيث رصد احتشاد كبير لعناصر من داعش قادمة من سوريا والعراق عبر سيناء وتونس أيضا.

وإذا كان تغيير أساليب التحرك يفيد بأن داعش تلقت خسائر فادحة أجبرتها على الاختباء وتقليل مظاهر الاستعراض، فإنه لا يلغي احتمال وجود تحول أو تبدل في الأدوار المنوطة بها. ومرد أخذ هذا الاحتمال على محمل الجد نابع مما ثبت عن أن التنظيم المتطرف إن لم يكن متواطئا مع أجهزة استخبارات عالمية وإقليمية كبرى، فهو مخترق منها إلى حد كبير.

ولذلك، يرجح العديد من المهتمين عربا وأجانب عند تبادل الآراء والأفكار معهم حول الموضوع إمكانية وجود تغيير في الأدوار الموكلة إلى جحافل داعش، وذلك على الواجهتين الشرق أوسطية والشمال إفريقية.

لقد بات ضروريا انحسار هذه الجحافل بعد أن أدت دورها في كل من سوريا والعراق، اللذين لن يعودا كما كانا، وسيظلان يدوران في حلقة مفرغة تغذيها الهواجس والشكوك المتبادلة بين مكونات المجتمع الطائفية والمذهبية والعرقية، التي إذا لم تقد إلى تشظي البلدين، فسترسخ بالتأكيد قدراتهما التي يضمنها الآن التواجد الأمريكي المكثف جويا في البلدين، ومن خلال قوات محلية أشرفت المخابرات الأمريكية على تدريبها وتسليحها.

واليوم، يبدو أن المطلوب من التنظيم المتطرف ومن الميليشيات المتشحة بالدين التي تدور في فلكه هو السعي إلى :

- مد الحرائق إلى الجوار العراقي والسوري، وخاصة المناطق المعتبرة رخوة مثل لبنان المشلول مؤسساتيا والمنقسم اجتماعيا وطائفيا، والأردن المؤرق بتياراته الإسلامية، والغارق في أزمته الاقتصادية، وذلك تمهيدا لتمديد الحرائق فيما بعد إن أمكن إلى تركيا وإيران ومنطقة الخليج حيث يجري تسخين أجواء عدم الاستقرار من خلال تأجيج صراع اليمن الذي تترنح مساعي السلام الأممية لحله في حوار الكويت، وأيضا من خلال الاضطرابات المذهبية المستعرة في كل من البحرين، وبدرجة أقل في الكويت.

- تأجيج الصراعات وأجواء التوتر في شمال إفريقيا وإجهاض كل محاولات تثبيت الاستقرار إن كان ذلك في تونس أو مصر أو الجزائر انطلاقا من ليبيا، حيث تتعثر كل محاولات التوافق الداخلي، ويجري خلط الأوراق عبر تعدد الجهات المتقاتلة على الساحة وتشابكها بشكل يساعد كثيرا على تعويم داعش، التي كلما صمدت أكثر زادت قيمتها كعنصر جذب للمتشددين الإسلاميين.

ومن المتابعة الدقيقة للسياسة الخارجية الأمريكية التي قد تقبل الهزيمة مرحليا دون التخلي عن أهدافها البعيدة ( أنظر كيفية إعادة ربط فييتنام بعجلة الاقتصاد الأمريكي بعد حروب مدمرة بين الطرفين، وما يتم تدبيره حاليا للحزب الحاكم في فنزويلا) يتضح أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية إرادة في تعميم الحرائق والنيران في المنطقة وإبقاء شعوبها متوترة متوجسة، منعدمة الثقة فيما بين مكوناتها وفي مؤسساتها.

ويعود ذلك إلى أن مراكز صنع القرار الأمريكي استاءت كثيرا من الطرق التي تم بها إجهاض الربيع العربي وأحلام شبابه، ولم تهضم إطلاقا ما قاد إليه ذلك الإجهاض من إعادة إنتاج نماذج جديدة للاستبداد بشكل منقح وصل في بعض الحالات إلى تلميع الوجوه المحترقة التي لفظتها الثورات والاحتجاجات وإرجاعها إلى الحياة السياسية، وكأن شيئا لم يحصل.

ولهذا لم يعد خافيا على أحد أن الإرادة والمصلحة الأمريكيتين تقتضيان في هذه المرحلة الحرجة من  التاريخ إبقاء المنطقة في خضم اضطرابات الفوضى الخلاقة، وخاصة بعد أن توارت إلى الخلف أو تلاشت تماما قوى الحداثة واليسار تاركة الساحة للتيارات الإسلامية بكافة تلاوينها، والتي رغم اختلاف أنواعها تبدو متفقة على أن المجتمعات العربية والإسلامية قد عادت فعلا مجتمعات جاهلية تتوجب هدايتها بالنسبة الإسلاميين المعتدلين بالتبليغ والدعوة، ويتحتم إعادة تشكيلها، وردها إلى جادة "الصواب والحق" ولو بالسيف بالنسبة للمتطرفين التكفيريين.

فهل يجري إعداد المنطقة لحروب دينية ومذهبية على غرار ما شهدته أوروبا قبل أن تفصل الدين عن الدولة؟ يستمد السؤال مشروعيته من ضراوة الاشتباكات الحاصلة بين أنصار المذاهب الشيعية (الجعفرية بالدرجة الأولى والزيدية والنصيرية)، وأنصار المذاهب السنية الغارقة نفسها في تبادل الاتهامات بالتطرف والغلو فيما بينها. وتزداد المشروعية أكثر إذا ما أضفنا لذلك اتساع رقعة توظيف الدين في السياسة من قبل الأنظمة الحاكمة نفسها، وحتى من فصائل محسوبة تقليديا على قوى الحداثة والديمقراطية واليسار أيضا.