يحتدم النقاش في هذه الأيام حول تعويم الدرهم في شروط جد مختلطة بعدة أحداث، منها استمرار مخططات بدأت مند عقود، مرورا بالحراك الشعبي و المحاكمات المتوالية للمناضلين، وصولا إلى مآسي الطبقة العاملة من تسريحات و تدمير لمكتسباتها التاريخية و موت محقق في أماكن العمل ذات الشروط اللاإنسانية أساسا. لكن مجمل النقاشات الدائرة تتناول الأحداث الظرفية فقط و بشكل جزئي و معزول و مفتقر لشروط الإفراز و السيرورات التاريخية المحورية في ذلك، بيد أن ما يحدث في بلدنا، بما فيه حدث تعويم الدرهم، ما هو إلا استمرار لمخططات و نظم متوازية و متوالية في نفس الوقت، و من خلالها يمكن التنبؤ بشروط الوضع المستقبلي وإن بشكل عام أو جزئي، لكن على الأقل تنتفي فيه الأوهام التي تحاول جهات عدة تسويقها، و هي أن الوضع ربما سيتغير و قد يتطور إلى أحسن مما هو عليه. و في تقديراتي المتواضعة، إن أي محاولة لفهم صحيح للوضعية يرتبط بثلاثة عوامل أساسية متوازية فيما بينها تاريخيا وأيضا سياسيا، تشكل أعمدة القهر التي ترزح تحت وطأته الغالبية الساحقة لأبناء الشعب و هي:
- التبعية للدوائر المالية الدولية: و هذا من خلال الديون و مخططات التقويم الهيكلي أو ما يطلق عليه ترشيد النفقات و المراقبة اللصيقة لصندوق النقد الدولي للاقتصاد "الوطني"، و توجيهه عبر تقارير و تعليمات متوالية، بل و حتى ما يطلق عليه إعادة جدولة الديون. طبعا هذا كله هو السبب في الخوصصة، أي تقديم مجموعة من المقاولات العمومية إلى لوبيات مسيطرة اقتصاديا و سياسيا، و أيضا القضاء على الميزانيات الإجتماعية من ميزانيات الصحة و التعليم و صندوق المقاصة، إلى غير ذلك.. و إعادة هيكلة النظام الضريبي بالرفع من الضرائب و توسيع حيز استخلاصها، و كذا إحداث ضرائب أخرى... بالإضافة إلى إعادة هيكلة النظام البنكي من إنقاص قيمة العملة الوطنية و السماح للبنوك الأجنبية ببسط نفوذها على مستوى البلاد بكاملها، وصولا إلى ما أطلق عليه تعويم الدرهم، أي ربط قيمة العملة الوطنية بعملات أجنبية. و بتعبير آخر القضاء على استقلالية قيمة النقد، بحيث ستصبح مرتبطة بعملات أخرى، أي باقتصادات و نظم مالية خارجية، و ستتحكم فيها الدوائر السياسية المتحكمة في قيمة العملات المرتبطة بها. أي أن اتخاذ القرار فيما يخص نظامنا المالي و الإقتصادي سيصبح من صنع أنظمة سياسية خارجية. وهذا لا يعني أنه حاليا أو في ما مضى أنه من صنعنا، لكن سيصبح ذلك بشكل مكشوف و مباشر و أكثر حدة.
هذا يعني في مستوى محدد، أن هذه الأنظمة السياسية ستتحكم حتى في عدد مربعات السكر التي ينوي المواطن البسيط إلقائها في إبريق الشاي. طبعا في مقالة بسيطة كهاته لا يمكن الإحاطة بكل شيء، لكن تبقى محاولة لبداية تخيل فضاعة الوضع.
- التحكم المخزني: طبعا عندما نتكلم عن التحكم، فالمقصود ليس فقط طبيعة التسيير السياسي و السلطوية المتشددة، بل حتى طبيعة القوانين التي لا زالت سارية المفعول بالرغم من تعديل الدستور في سنة 2011، على علته. و رغم أنه يوضح في تصديره الذي يعد جزءا لا يتجزؤ منه أن المواثيق الدولية تعلو فوق التشريعات الوطنية. و هذا طبعا غير صحيح بأي حال من الأحوال. و الأكثر علة من سابقه، أن القوانين الأخرى سواء منها العامة أو الخاصة تعلو فوق الدستور و تتناقض معه، و تبقى سارية المفعول سواء في الإدارة العمومية أو المحاكم أو مؤسسات و أجهزة الدولة الأخرى، إضافة إلى التأثيرات الإيديولوجية من خلال القنوات الإعلامية و المقررات الدراسية بالمدارس التعليمية. و هذا يساعد في التحكم المخزني أكثر من آلية القمع التي تستعمل في التظاهرات الإحتجاجية، ناهيك على فبركة الملفات للحركيين و محاكمتهم والزج بهم في السجون. و هذه أم الفضائح، لأن المحاكم بأي حال من الأحوال يجب أن تبقى منزهة عن الصراعات السياسية و تصفية الحسابات، لا أن تدخل كأداة للضغط على المحتجين بسبب وضع محدد، و هذا نقاش كبير يتضمن أمور شتى للتداول.
نعود هنا الى التحكم المخزني و الذي نجد تجلياته أيضا حتى في ما يطلق عليه المؤسسات التي تدبر الشأن المحلي، و كذا الهيئات التشريعية، حيث يتم إفرازها بناء على بهرجة يسمونها انتخابات و يقصدون بها تجسيد الديمقراطية. هذه الديمقراطية التي لا نعلم إلى من تنتسب. فمن أصل 25 مليون لديهم أهلية التصويت لا يقوم بهذا الفعل غير 6 ملايين، و هذا باعتراف الدوائر الحكومية نفسها. طبعا إنها دمقراطية الحلقة، حيث يقوم بكل الأدوار شخصين أو ثلاثة أشخاص، لكن العشرات هم متفرجون و يؤدون ثمن ذلك. غير أن الفرق بين المتفرجين في الحلقة الترفيهية و نظرائهم في الحلقة السياسية، هو أن الأولين يدفعون ثمنا قليلا و يحصلون على الترويح عن النفس، لكن المجموعة الثانية تدفع الثمن جد باهض ماديا و معنويا، و كذلك مستقبل الأجيال القادمة.
لن نستطيع الإحاطة هنا بكل شيء من تسخير مؤسسات الدولة لخدمة مصالح لوبيات المال و الأعمال، وصولا إلى اقتصاد الريع.. إلى غير ذلك، غير أن هاته تبقى "روتوشات" و للقارئ حرية و حقوق الإستكمال من حمولته المعرفية.
- الفساد المستشري في مختلف المؤسسات: و كما يقول المثل هنا "حدث و لا حرج"، فالفساد يضرب جذوره و يتغلغل في المؤسسات لدرجة أنه أصبح هو الأصل. فما عليك إلا أن تطرح مشكلا بين المواطنين البسطاء و انتظر الرد ماذا سيكون. طبعا هذا في مستوى معين و بشكل بسيط، لكن الحقيقة المرة هو أن الفساد أصبح مؤطرا بلوبيات تحميه و تطور أساليبه، بل و تحارب حتى العناصر النزيهة و التي تحاول ليس التغيير حتى.. بل فقط فرض مبدأ النزاهة في مهامها الفردية من داخل المؤسسات. و في أحسن الأحوال تبقى هذه العناصر الأخيرة معزولة و غير مرغوب فيها..
طبعا لا يمكن أن نفوت الحديث هنا عن ما و قع في الضمان الإجتماعي و الصندوق المغربي للتقاعد و القرض العقاري و السياحي.. إنها ثلاثية تجعل فئات عريضة من أبناء الشعب ترزح تحت وطأة القهر الإجتماعي و تفتح الأبواب لسخرية القدر لتخرج علينا مسؤولة حكومية بقولها: "من ينفق 20 درهم في اليوم ليس فقير". طبعا قد تكون صادقة في إحساسها في حالة إذا كانت هي تحصل على كل احتياجاتها بالمجان، و بالتالي فهي لا تنفق 20 درهم في اليوم من مدخولها، بل تحتفظ به مكدسا في البنوك. وخلافا لهذا، فهي تتحدث بمنظور طبقي، أي أن الكادحين إذا أنفقوا 20 درهم في اليوم فهم ليسوا فقراء، أما زميلها في الحكومة السابقة الذي أنفق مائتي ألف درهم من المالية العمومية في شراء "الشكلاطة"، فذلك فيه خير للشعب عندما يتمتع هو بمذاقها. ربما تتفتق عبقريته و تنتج أفكارا قد تساهم في سد الديون العمومية، و ربما يصل ذلك إلى مراكمة احتياطي من النقد تحتل به البلد درجة مهمة عالميا. إنها أم السخافات...
خلاصة القول، أن القهر الإجتماعي ببلدنا وليد عدة عوامل، لكن يبقى أهمها هو هذه الثلاثية، و التي لا محال أنها متوازية و مترابطة فيما بينها، يغذيها ويقويها كل من الحركات الرجعية و سيطرة الإنتهازية فيما يسمى تقليديا بمنظمات الدفاع الذاتي للكادحين من نقابات و أحزاب و جمعيات، و التي لم تستطع بسبب وضعها الحالي بناء ميزان قوى للحد من سيطرة و هجوم ثالوث القهر.