ترتبط نشأة جهاز المخابرات الجزائرية بلحظة انتباه أطر الثورة الجزائرية إلى ضرورة هيكلة ذاتهم، إداريا وتنظيميا، للانتقال بالكفاح من أجل الاستقلال إلى مرحلة القوة التفاوضية مع الاستعمار الفرنسي. وفي هذا الإطار تأسست الحكومة المؤقتة سنة 1958 برئاسة فرحات عباس، كشكل من أشكال تصعيد المواجهة وتسريع إيقاع التحرير. وقد تكلف بهذا الجهاز يومها عبد الحفيظ بوصوف الذي يصفه مؤرخو الجزائر باعتباره مؤسس المخابرات.
كانت تلك النواة الأولى التي اتخذها التخابر والاستعلام ضمن السياق الجزائري المحدد آنذاك بتجاذبات التفاوض من أجل استقلال البلد الجار، بدعم وإسناد مالي وعسكري من طرف المغرب بقيادة المغفور له محمد الخامس وباشتراك أركان الحركة الوطنية آنذاك. لكن بعد استقلال الجزائر سنة 1962 ستعاد هيكلة هذا القطاع وفق منطق الدولة التي اتخذت، منذ بنائها الأول، شكل الحكم العسكري القائم على مبدأ الحزب الوحيد (جبهة التحرير الوطني)، وشعار استمرار الثورة ضمن إطار الحرب الباردة القائمة ساعتها بين القوتين العظميين.
ومن ثم سيخضع اسم الجهاز وإدارته إلى بعض التعديلات، خاصة خلال إسناده إلى هواري بومدين الذي سيطبعه باسم "الأمن العسكري" (SM)، وسيجدد هياكله وفق تقاليد الاتحاد السوفياتي سابقا، حتى أن هذا الجهاز صار يعرف بالكيان المعادل للمخابرات السوفياتية، ولذلك كان ينعته الجزائريون بالـ (KGB)
لقد كانت المهام بهذا الخصوص محددة أصلا في ما كان يعبر عنه بتثبيت رهان استقلال الجزائر، وتحصينه من كل تبعات الآثار الفرنسية التي تحكمت بالبلاد منذ 132 سنة، ومحددة ثانيا في تثبت أركان السلطة على خلفيات الصراعات الناشئة داخل أجنحة حركة التحرير الجزائرية، والتي سيتم التعبير عنها سنة 1963 من خلال التمرد العسكري لمنطقة القبائل بقيادة الحسين آيت أحمد، ضد على ما اعتبر آنذاك إقصاء الأمازيغ من مراكز السلطة، واستفراد جهات على حساب جهات أخرى.
هنا سيبرز معطى أساسي سيضيف إلى مهام جهاز بومدين مهمة رئيسية تتمثل في توجيه عمل المخابرات نحو المغرب (حليف الأمس وشريكه في معركة التحرير)، ليس فقط لأن نظام العسكر كان يبحث عن عدو موضوعي للامساك المطلق بالسلطة، ولكن أيضا لتصدير مشاكل الداخل إلى الخارج .
في هذا الإطار وجهت القيادة الجزائرية الاتهام الرسمي إلى المغرب بدعوى دعم انتفاضة آيت أحمد، خاصة وأن المغرب كان آنذاك يطالب الطرف الجزائري بتسوية مشاكل ترسيم الحدود العالقة منذ زمن الاستعمار. في حينها لم يكتف المغرب بنفي وجود أية علاقة له بالتمرد العسكري لمنطقة القبايل. بل إن المرحوم الحسن الثاني كان قد بادر بزيارة الجزائر العاصمة، في مارس 1963، تلبية لدعوة الرئيس أحمد بن بلا، ولإظهار حسن نية المغرب، وحسب ما يروي ذلك عبد الهادي بوطالب (الذي رافق الملك في الزيارة المذكورة كوزير للإعلام والرياضة والشباب) فقد حمل الوفد معه هدايا سخية ضمنها قطع من العتاد العسكري المتنوع، وثلاثة وعشرين سيارة من نوع مرسيديس مهداة إلى كل وزراء الحكومة هناك. ومع ذلك فقد باءت الزيارة بالفشل حين رفض الطرف الجزائري كل صيغ التسوية مع المغرب المطالب بحقه الحدودي. بل إن الجيران قد اختاروا التصعيد، وشنوا هجوما على نقط من ترابنا غير المتنازع حوله أبدا مثل مركزي حاسي بيضا وتينقوب، وكذلك نقطة تيندرارة الموجودة ضمن إقليم وجدة، الأمر الذي فجر حرب الرمال بين المغرب والجزائر، والتي انتهت بوساطة قادة من إفريقيا، بعد أن تكبدت فيها الجزائر خسارات مادية ونفسية على حد سواء. وهو ما صار يشكل عقدة العساكر هناك منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. وبمنطق الربح والخسارة، فقد خسرت الجزائر على الميدان لكن حكامها ربحوا في اكتساب العدو التاريخي الذي سيعلقون عليه كل مشاكل بلادهم. وهذا بالضبط ما سيجعل جهاز المخابرات يبدل معادلات عمله بحيث جعل مهمة مواجهة المغرب في صدارة المهام الخارجية.
لقد تم ذلك من خلال إيواء معارضي الحسن الثاني، ومدهم بكل أشكال الدعم المادي والسياسي، حيث صارت الجزائر العاصمة هي قاعدة تحرك أقطاب المعارضة المغربية طيلة مرحلة الستينيات.
في سنة 1965، سيقود هواري بومدين انقلابا على أحمد بن بلا، وسيسلم مفاتيح الجهاز إلى قاصدي مرباح الذي سيواصل مهام التحرش بالمغرب نهاية عقد سبعينيات القرن الماضي، بحيث عمق تلك المهام بكل تفاصيل العمل السري من أجل مواجهة المطلب المغربي باستكمال تحرير ترابه. في هذا الإطار آوى أفراد من الشباب المغربي ذوي الأصول الصحراوية الذين كانوا قد بادروا بطرح موضوع تحرير الصحراء من الاستعمار الاسباني مع الأحزاب المغربية.
هنا كان الجهاز الذي استضاف معارضي الحسن الثاني جاهزا لاستضافة معارضي الوطن هذه المرة. بل إنه لم يكن يكتف بهذا الدور، ذلك أنه نصب نفسه فاعلا أساسيا في التأجير على سير الملف داخل المنتظمات الدولية، خاصة بعد أن طرح المغرب الموضوع على محكمة لاهاي سنة 1974، وبعد إطلاق المسيرة الخضراء في السنة الموالية. وهو الوضع المستمر إلى اليوم.
مع بداية الثمانينيات، تستفيق الجزائر على خطر التنظيمات الإرهابية، وسيتولى جهاز المخابرات الذي تحول اسمه إلى دائرة الاستعلام والأمن (DRS) مهمة الرصد والتتبع، بما فيها محاولات اختراق التنظيمات الإرهابية في أدغال الجزائر، بموازاة مع الإبقاء على خط المواجهة مع المغرب. وفي سنة 1990، سيتولى محمد مدين (أو الجنرال توفيق) قيادة الجهاز إلى غاية سنة 2015، تكرس خلاله اسمه كصانع فعلي للرؤساء كما ينعته الإعلام الجزائري إلا أن مهامه التي مارسها على امتداد ربع قرن لم تجعله فقط صانعا للرؤساء فقط، بل صانع للسياسات بما فيها ترسيخ سياسة العداء ضد المغرب، عبر استمرار الماورات من أجل استمرار التضييق على بلادنا. أما لماذا قرر بوتفليقة عزله في شتنبر 2015، وفك جهازه في يناير 2016، وتحويله إلى جهاز باسم "مديرية المصالح الأمنية" بثلاثة فروع (مديرية الأمن الداخلي، مديرية الوثائق والأمن الخارجي ومديرية الاستعلام التقني) يتولى قيادتها عثمان (أو بشير) طرطاق بارتباط مباشر مع رئاسة الدولة، فالتأويلات تتعدد بسبب تعدد وجهات النظر، لكنها تلتقي في التأكيد على أن قرار بوتفليقة المريض كان هو قرار محيطه الرئاسي الذي يسعى إلى امتلاك القرار الاستراتيجي على خلفيات مشكل الخلافة المطروح منذ سنة 2013. وعلى مستوى المواجهة المباشرة مع المغرب ووجوب تحديد معالمها الكبرى من طرف الرئاسة لكن السؤال الذي يهمنا في هذا الاستعراض التاريخي هو: هل كان قرار عزل مدين، وبعده حل جهاز المخابرات بشكله التقليدي تعبيرا عن قرار الدولة بطي مرحلة التحكم المخابراتي ذات الجذور العسكرية لفائدة أجهزة الأمن ذات الامتداد المدني كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين الرسمين في الجزائر.
الذين يقبلون بمثل هذا التحليل يغيب عنهم معطى أساسي يتمثل في كون النظام في الجزائر هو النظام. إنه الجوهري الثابت بما يعنيه من استمرار إرادة التحكم في الدولة والمجتمع، أما تغيير أسماء الأجهزة وأسماء رؤسائها فما هو إلا المتغير. وهذا ما ينبغي استحضاره في قراءة المشهد الجزائري القائم على الانغلاق. ولأن النظام هو النظام، فالمرتقب لا فقط استمرار التحرش بالمغرب كثابت في استراتيجية حكام الجزائر، ولكن سعيهم إلى تجديد الأدوار والمهام، وهناك اعتباران اثنان يؤكدان هذا التوجه:الأول تمادي القيادة الجزائرية في دورها المعادي لقضيتنا الوطنية بتنسيق مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، وداخل المحفل الأممي والإدارة الأمريكية، وما استقبال الأمين العام بان كيمون بتندوف والجزائر العاصمة، في مارس 2016، إلا أحد ملامح هذا التمادي. أما الاعتبار الثاني فيتمثل في حاجة النظام الجزائري العتيق إلى العدو التاريخي، خاصة أن قصر المرادية (الأشبه اليوم بعلبة الأسرار) محتاج إلى تأجيج الصراع مع الخارج، ومع المغرب تحديدا لأنه محتاج إلى تمرير صفقة الخلافة لفائدة أبرز مرشحيها الحالين: سعيد بوتفليقة (المسمى حاليا مستشارا خاصا للرئيس.)، أو ما يرتضيه هو بعد أن أمم الجيش والأمن ورجال الأعمال لفائدته.
هنا تبرز الدلالة الكبرى لإبعاد محمد مدين، ولتعديل مهام جهازه باتجاه نفس جديد من استراتيجية التحكم في مسارات الدولة والمجتمع هناك.