السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: "الرجل ذو المعطف الطويل" يعود بعد 21 سنة من الغياب

لحسن العسبي: "الرجل ذو المعطف الطويل" يعود بعد 21 سنة من الغياب الزميل والكاتب لحسن العسبي رفقة والده الحاج سي عبد الله

هذا النص، نشرته منذ 21 سنة، بيومية "الاتحاد الاشتراكي" المغربية، ضمن سلسلة كان يشرف عليها الأخ الصديق، الشاعر المغربي حسن نجمي، تحت عنوان "ذاكرة الطفولة". كنت قد فقدت أي أثر عنه، حتى جاءني أستاذ فاضل هذه الأيام، هو أستاذ متقاعد كان يدرس مادة اللغة العربية بالثانوي، اسمه "حسن الأصبهاني"، حاملا معه نسخة من نصي القديم ذاك، وكيف أنه قد درسه لتلامذته لأكثر من 12 سنة. فارت دمعة من مقلتاي، وقبلت رأسه.

هذا النص، سافر بعيدا عني، لأكثر من 20 سنة، وعاد إلي. فقررت أن أشرككم فيه أيها الأصدقاء والصديقات. هو يحكي عن تفصيل من طفولتي في أعالي الأطلس الكبير عند قدم جبل سيروا، وعن علاقتي بوالدي عبد الله العسبي.

"لا يزال يذكر جيدا المنحدر الصغير الذي يقود نحو الوادي بعين مائه الدائمة الجريان.. لا يزال يذكر الرجل بمعطفه الطويل وبقامته الفارعة (فيما بعد، سيصبح هو أطول منه).. لا يزال يتذكره حين تقدم ليسأل جمعا من الأطفال عن ابن فلان، لأنه لا يعرفه، فأشاروا جميعهم بأصابعهم، وهم يقولون له بأمازيغية رصينة: "هو ذاك".. توجه الرجل صوبه وهو يمد إليه ذراعيه، فارتعد الصبي ذو السنوات الأربع رهبة وخوفا، واستجمع كل قواه الصغيرة وأطلق ساقيه (الغاية في النحافة) للريح على امتداد الوادي، وصولا إلى المنعرج الجبلي الذي يقود صوب.. حضن أمه.

كان صوت الرجل لا يزال عالقا بأذنه وهو يناديه: "لا تخف، تعال.. أنا أبوك".. كان السؤال يلح عليه هو كيف يسمح هذا الغريب بمعطفه الطويل لنفسه أن يدعي أنه أبوه، والحال أن صاحب اللحية الصهباء الذي ينام دوما في حضنه كل مساء هو أبوه؟

لم يمنع هذا اليقين الراسخ عنده، الرجل أن يلج غرف دراهم المعلقة بين جبلين (بجبال الأطلس الكبير).. أن يأكل وينام أياما، بل أسابيع.. رآهم جميعهم يحتفون به وبمقدمه.. رأى أعمامه يعانقونه وهم يبكون مثل الأطفال.. رأى الشيخ الذي يسد عين الشمس، بلحيته الصهباء، وهو يقبل الرجل في فمه، ثم رآه يتراجع ويمد "رزته" البيضاء على الأرض ويقول بأعلى صوته: "الآن انزل أيها الموت.. الآن تعال، فأنا لا أخشاك".. رأى النسوة يزغردن فرحا.. رآهن يعانقن الرجل الغريب ويقبلن يده ويقبل هو أياديهن في حركة متتالية.. رأى أمه تبكي والنسوة حولها ينظفن البيت ويزلن عن دجاجات، ذبحت على عجل، ريشهن، وهن باسمات يرددن مواويل أمازيغية غريبة.. ثم رأى الرجل يخلع عنه معطفه، يزيل حذاءه، ويتمدد فوق الزرابي الباذخة التي فرشت لأجله..

رأى كل ذلك، وظل منزويا، صامتا، لا يهتم به أحد، شبه منسي وسط الجلبة التي عمت الدار فجأة.. رأى الرجل الممدد يعدل من جلسته ليجلس القرفصاء وناداه باسمه ("هو يعرف اسمي" هكذا قال مستغربا).. دعاه للجلوس جواره، فرفض.. حاول عمه أخذه إليه بالقوة، فانفجر باكيا.. وما أن أفلت من قبضة قريبه، حتى ارتمى في حضن الرجل الشيخ بلحيته الصهباء، وصمت.. رددوا أمامه جميعهم أن الرجل الجالس هناك أبوه، ولم يجب بشئ.. ظل صامتا، يرقب ما يجري حوله في ذهول..

في الليل، وبعد أن غادر الجميع الدار، انسل إلى أمه وهي تضع العلف للبهائم، فسألها مستغربا: "ألن يذهب ذاك الرجل إلى حال سبيله؟". فأجابته: "إلى أين سيرحل، إنه أبوك وهذه داره". رفض الصغير جواب أمه وهو يصيح فيها: "أبي هو فلان". أخدته بين ذراعيها وقالت: "لا، فلان جدك. أما أبوك فهو هذا الرجل. واسمه عبد الله".

أين كان "عبد الله" هذا؟. ولم لم يظهر في ما مضى من الأيام؟

كان لا بد أن يموت الجد سنة واحدة بعد عودة الرجل ذي المعطف الطويل.. وكان لابد أن يعود مع أمه وأخويه مع ذات الرجل إلى بيتهم الآخر بمدينة الدار البيضاء، كي يكتشف أنه ولد أصلا بتلك المدينة وأن أباه كان سجينا..

ما معنى سجين؟ وما السجن؟. ولم كان سجينا؟.. تلك أسئلة ولجت عقله الصغير باكرا، تماما مثلما ولجتها أسئلة السياسة ومعنى حزب في المعارضة، ومعنى أن ينتمي أبوه لذلك الحزب، ومعنى أن ذلك الانتماء يقود إلى الاعتقال.. وتلك حكاية أخرى لن يعرف تفاصيلها ومعانيها سوى سنوات بعد ذلك..

حدث الأمر كله في النصف الأخير من الستينات (1964/ 1968).. وكان لا بد من زمن، كي أدرك (أنا الطفل الأمازيغي الذي عاد إلى مسقط رأسه الدار البيضاء، ذات شتاء بارد سنة 1969)، معنى ألم الغربة.. غربة طفل عن أبيه، وغربته الثانية عن جده الذي اعتقده أباه، ثم أخيرا غربة لسانه داخل مدينة لم يكن يجد من سبيل للتواصل مع كلمات أهلها الطيبين"..