كلما طُرِح السؤال على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران: لماذا لا تريد أن تمارس صلاحياتك الدستورية كرئيس للحكومة، يجيب دائما بكثير من المكر الخادع: « هناك من يريدني أن أتصارع مع الملك، ومن يبحث عن ذلك عليه أن يبحث عن عنوان آخر»!
ومع ذلك، يحق لنا أن نتساءل بكثير من الجدية: هل بنكيران واضح الطوية في ما يروج له من «ولاء» تام لرئيس الدولة؟ ألا يحاول «تحييد» الرأس من أجل التهام سائر البدن؟ ألا يحاول والي «الإخوان المسلمين» في المغرب أن يصنع بدأب وإصرار قواعد جديدة للصراع بينه وبين «أمير المؤمنين»؟
ما يدعو إلى طرح مثل هذه الأسئلة وغيرها هو إقحام منابر المساجد ومؤسسات وزارة الأوقاف (المجالس العلمية والتعليم العتيق) في الصراع السياسي والإيديولوجي، على نحو منظم ومضطرد، حتى نكاد نعتقد أننا أمام إمارتين: إمارة الظاهر وهي التي يرعاها على المستوى التنفيذي، أحمد التوفيق (وزيرالأوقاف) ومحمد يسف (الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى) ثم إمارة الباطن التي يرعاها الأمين العام للبيجيدي، مما يضعنا أمام صراع خفي تستعمل فيه المناجل التي «تحش» من الأسفل عوض تبادل إطلاق النار كما يليق بمبارزة نبيلة!
وإلا بماذا نفسر الجرأة التي بدأ يبديها بعض «الموظفين»، أمثال المسمى عبد الكريم القلالي، أستاذ مادة التربية الإسلامية بالثانوية التأهيلية وخطيب الجمعة بسبتة والمرشد التربوي بالتعليم العتيق، الذي تدخل بعنف واستهزاء للرد على أستاذ استعرض جهود ابن تومرت في ترسيخ الهوية العقدية للمغرب، متهما ابن تومرت بكونه «لم يكن سلفيا ولا أشعريا وإنما كان مصلحيا»، وذلك خلال الملتقى الثالث حول سبتة المنظم من قبل المجلس العلمي المحلي لعمالة المضيق الفنيدق تحت شعار (سبتة العالمة تاريخ واعلام)؟
بماذا نفسر هذه الهجمة الوهابية على المهدي بن تومرت من موقع الانتماء الوظيفي للتعليم العتيق، إذا لم نضعها في السياق العام الذي تعيشه مديرية التعليم العتيق، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي يهاجم فيها المهدي بن تومرت من قبل موظف محسوب على هذه المديرية، إذ سبق لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن أبعدت الوهابي فؤاد الدكداكي عن الخطابة والتعليم العتيق لاتهامه المهدي بن تومرت من فوق المنبر بالزندقة!
إن هذا التهجم على ابن تومرت ليس سوى الشجرة التي تخفي الحشد الإيديولوجي الإخواني الوهابي ضد القوى الديمقراطية، باستعماله ضد الدولة والمجتمع ورموزه وتاريخه. وفي هذه الصورة المجازية يبرز «الاحتضان الرسمي» للتدبيرالأصولي للتعليم العتيق من خلال بنية تربوية وإدارية محكمة الحلقات.. بيد أن السؤال هو: من يقف خلف ترسيم هذا الاحتضان؟
بالعودة إلى بعض حيثيات الانتخابات الجماعية السابقة، وتحديدا تلك الزيارة التي قام بها عبد الإله بنكيران على هامش المجلس الوزاري بطنجة، بتاريخ 13 أكتوير 2015، لمقر حركة التوحيد والإصلاح ولمدرسة أم المؤمنين عائشة. وإذا كانت زيارة مقر الحركة التي ينتمي إليها رئيس الحكومة واضحا بسبب تبعيته لها (أو تبعيتها له)، فإن زيارته لمدرسة عائشة يفضح تبعيتها الأيديولوجية لحركته وحزبه، وليس لمديرية التعليم العتيق، كما يفترض ذلك واقع الحال، مما يكشف أن عبد الإله بنكيران يتسلل (أحيانا بشكل مكشوف) إلى المجال المحفوظ لأميرالمؤمنين، بدون إذن ولا مصاحبة من الوزير
الوصي. بل يكشف مسلك التخطيط والإخراج الديني لمقولات الصراع السياسي بدوافع انتخابية، وذلك بتوظيف التعليم العتيق وغيره من المؤسسات في التدافع الانتخابي. ومن هنا يميل بعض المتتبعين إلى الاعتقاد بأن أمر الملك في 6 فبراير 2016 بمراجعة مناهج ومقررات التربية الدينية، يتجاوز
في سياقه الجوانب البيداغوجية والمذهبية إلى الجوانب الهيكلية الضامنة لاستقلالية هذا النوع من التعليم عن التوظيف الأصولي. ومعناه أن «إمارة المؤمنين» غير نائمة عن المخطط الرهيب الذي يقوم بتنزيله رئيس الحكومة، وهذا ربما ما جعل ردود الفعل الأصولي تدافع بشراشة عن الوضع القائم لمحتويات التربية الإسلامية والتعليم العتيق، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة الدفاع عن معاقلها حتى يكون الحقل الديني مدبرا برأسين.. رأس متغلغل في الجسم كله، ورأس يدبر الواجهة. والخطير في الأمر، كما انتبه إلى ذلك المتتبعون أنه حتى وزارة الأوقاف انساقت مع هذه الموجة، فقد نشر موقعها في29 فبراير 2016 الإعلان عن «المنهاج التربوي لتدريس مواد العلوم الشرعية بالتعليم العتيق»، وبالتنويه الذاتي لعمل حددت ملامحه الحسابات الأصولية.
وهكذا أصبحنا نلاحظ يوما بعد يوم أن حزب العدالة والتنمية، ومع اقتراب الانتخابات التشريعية (أكتوبر 2016) بد أيرخي بكامل ثقله في الحقل الديني، من خلال تجنيد المؤسسات الدينية في معركته السياسية لربح رهان الاستحقاقات التشريعية المقبلة. غير أن هذا التوجه الانتخابي بدأ يتعرض لكثير من لحظات الفشل، خاصة بعد أن اتخذت الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى في حق لقاءات للمجالس العلمية بالشمال والشرق كالمضيق و الحسيمة و وجدة و شفشاون، من منطلق تأكيد استقلالية مؤسسات الحقل الديني عن الفاعل السياسي.
وحسب معطيات التحليل لبعض المتتبعين، فإن الوعي الجديد للأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى قد غذته الروح المتيقظة التي تسري في أوصال الأجهزة الأمنية والإدارة الترابية. ولعل أوضح مثال على ذلك تأجيل اللقاء الذي كان يعتزم المجلس العلمي بوجدة تنظيمه يوم السبت 28 ماي 2016، في موضوع المخدرات. حيث تلقى مصطفى بنحمزة تعليمات من أجل إلغاء هذا اللقاء، لجامه عن التهجم عن حزب الأصالة والمعاصرة ، كما حدث يوم السبت 14 ماي 2016، حيث نعت الذين يدعون إلى تقنين الحشيش بالقتلة، في إشارة واضحة لإلياس العماري (الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة). كما تم تأجيل ندوة كان يعتزم المجلس العلمي بالحسيمة تنظيمها، فضلا عن إلغاء نشاط آخر من تنظيم توفيق الغلبزوري رئيس المجلس العلمي للمضيق، وأيضا تأجيل لقاء جهوي كانت تعتزم تنظيمه الخلية النسوية للمجلس العلمي لشفشاون، حول الإرث.
إن هذه القرارات تثبت أن الانفلات في الوظيفة الدينية لم يعد مقتصرا على القيمين الدينيين المحسوبين على الحركة الأصولية، بل أصبح نهجا ثابتا في بعض المؤسسات الدينية الرسمية المفروض ان تحمي الأمن الروحي للمغارب وليس ان تتحول إلى خصم للموروث الديني المغربي. فهل تم استيعاب أن الفتق
يتسع على الرقعة بوتيرة غير محسوبة، أم أن لبنكيران أوراق أخرى للانقضاض على الحقل الديني وتحويل إمارة المؤمنين إلى وعاء بضمون أصولي وتحويلها إلى أداة تابعة للإخوان المسلمين بعد أن كانت مظلة يستظل بها جميع المغاربة؟
عبد الإله بنكيران بمدرسة أم المؤمنين عائشة بطنجة