الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الصادق العثماني:البرازيل..نموذج يحتدى به في التسامح الديني والتعايش الإنساني

الصادق العثماني:البرازيل..نموذج يحتدى به في التسامح الديني والتعايش الإنساني

في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد العربية والإسلامية، مع بروز طوائف وأحزاب ومذهبيات وعصبيات جاهلية، يأتي موضوع التعايش بين الأطياف البشرية المختلفة وخاصة بين المسيحيين الذين يعيشون بين أحضان الدول العربية، والمسلمين المهاجرين الذين يقطنون بين أصحاب الديانات السماوية الأخرى في أوروبا وغيرها، ولاغرابة في هذا التعايش والوئام؛ فنحن نجد عبر تاريخ العلاقة بينهما منذ خمسة عشر قرناً إلى اليوم، قضية تعد من المسلّمات الاعتقادية والتشريعية والأخلاقية لنا نحن المسلمين.

السبب في ذلك، أن هذا التعايش قد وضع القرآن الكريم أسسه ومبادئه، وقام النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتطبيقه على أرضية الواقع خلال حياته، وأمثلة في هذا ﻻ تعد وﻻ تحصى، ثم نهج الصحابة من بعده نفس النهج، وهكذا انطلقت مسيرة التعايش الإسلامي المسيحي واليهودي عبر هذه القرون الطويلة، متألقة تسير من تطبيق عملي لها إلى تطبيق عملي آخر، خلا بعض الفترات الزمنية التي كانت علاقة التعايش فيها ترتكس نحو سلبية مظلمة، أو عصبية بغيضة، أو طائفية مقيتة، يسببها بعض المتطرفين والحمقى من هنا وهناك، أو بعض الجهلة بحقيقة الديانات السماوية، أو التأويلات المنحرفة، أو الأهواء والمصالح والأنانيات لبعض رجال الدين، أو تدخل الغرباء الذين يسعون لبث بذور الطائفية، تمهيداً لاستعمار واستغلال بلاد المسلمين والمسيحيين على السواء.

لقد وضع القرآن الكريم وسنةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قواعدَ التعايش مع غير المسلمين، وكانت هذه القواعد أسساً واضحة جلية تستند على حفظ حق مقدس، ألا وهو حق الكرامة الإنسانية، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: "ولقد كرمنا بني آدم"، وبيّن أن الناس متساوون من حيث بشريتهم، فقال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وجاء في الوثيقة الإسلامية الكبرى لحقوق الإنسان على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع، قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب" ( رواه أحمد.). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من دعائه بقوله: "اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخوة"(رواه أبو داود.). ومن هنا كانت الحصانة لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم، وعقائدهم فقد قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.." فالاحترام والتقدير للشخصية الإنسانية حقيقة جلية في نصوص الإسلام، فلقد جاء في القرآن الكريم أن: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" ً.

كل ذلك دون تفرقة بين لون أو جنس أو ملة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا" (رواه مسلم وأبو داود وأحمد) . هكذا نحن نفهم الإسلام وندعو من خلاله إلى التعايش والتعاون على البر والتقوى والعمل الصالح بالتنسيق والتآز مع جميع مكونات الشعب البرازيلي لبناء الوطن والمساهمة بإعماره والعيش فيه بسلام، مع أن بعض المتنطعين والمتشددين من بني جلدتنا في البرازيل، وبعض المشايخ بالدول العربية والإسلامية يكفروننا؛ بدعوى أننا التقطنا صورة "فوتوغرافية" مع أحد القسيسين البارزين في البرازيل وعلى صدره صليب؛ لكن نحن لانلتفت إلى هؤلاء الذين لم يسلم منهم ومن آذاهم حتى السجد الركع في بيوت الله تعالى، وفي هذا السياق من التعاون استقبلت البرازيل في العشرة الأعوام الماضية البابا بنديكتوس السادس عشر، وهي الزيارة الأولى له لأمريكا اللاتينية، لوقف الزحف البروتستانتي تجاه الكنائس الكاثوليكية ولحل بعض المشاكل بينهما؛ علما بأن أمريكا اللاتينية تعتبر القلب النابض للكاثوليكية في العالم، حيث تضم نصف كاثوليك الكرة الأرضية، أي حوالي 415 مليونا..وكان البابا قد سماها قبل أيام من موعد زيارتها بقارة (الأمل) أو (الرجاء).

وتعد من أكبرالدول الكاثوليكية في العالم، فمنذ 10 سنوات كان 88% من سكانها يدينون بالكاثوليكية، وتراجع الرقم حاليا إلى 64% حسب إحصائية مؤسسة (داتافوليا) ونظرا للحرية الدينية تشهد البرازيل تنوعا كبيرا فكل ما يعرض على أرضها من عقائد ومذاهب وديانات وأيديولوجيات وتيارات فكرية متنوعة يلقى رواجا وأنصارا وأتباعا، ولو أن المسلمين أحسنوا عرض دينهم وتطبيق أخلاقه على أرضية الواقع لكان الإسلام أكثرالأديان انتشارا، وهذا مالم يحدث للأسف، ومازالت نسبتهم لاتتعدى 1% .

يعود تاريخ الديانة الكاثوليكية في البرازيل وأمريكا اللاتينية إلى اكتشاف القارة على يد (كريستوف كولومبس) وأخذت في التوسع إبان الاستعمارالإسباني والبرتغالي والهجرة الإيطالية..إلا أنها بدأت تتقلص بعد ذلك بسبب الانحراف الذي طرأ على الكنيسة والقائمين عليها من رجال الدين، وبهذا أفقدت قوتها الجماهيرية بعد أن أصبح أتباع هذه الكنائس يجدون الملاذ في عتبات الكنائس البروتستانتية والأرثوذوكسية والبوذية والمعابد اليهودية والمساجد الإسلامية، الأمر الذي أقلق بابا روما السابق (يوحانابولس الثاني) فتوالت زياراته إلى البرازيل ؛ فكانت الأولى في عام 1982، والثانية في عام 1986، والثالثة في عام 1991 لحث أتباعه على التمسك بمذهبهم وعقيدتهم الكاثوليكية، ولازالت الكنائس الإنجيلية (البروتستانتية ) تحقق نجاحات كبيرة في جذب الأتباع، خصوصا في مدن الصفيح الفقيرة في ضواحي المدن البرازيلية الكبيرة، ومن المؤسف جدا، وخلال السنوات اﻷخيرة بدأنا نلاحظ أن الكنائس البروتستانتية (الإنجيليون الجدد) بدأت تسيطرعليهم النزعة الأصولية المتطرفة تجاه الإسلام والمسلمين؛ بحيث أقنعتهم بعض الأيادي الخفية والتي لها المصلحة في تطاحن الأديان مع بعضها البعض، بأن السيد المسيح عليه السلام سيعود قريبا إلى مسقط رأسه ووطنه (فلسطين) لكن فلسطين- كما أوهموهم- محاصرة بالأعداء والكفار من المسلمين، ومن ثم لابد من مساعدتهم على تحريرها وإيجاد مناخ وظروف دولية وسياسية واقتصادية ونفسية وعسكرية وأمنية ملائمة لعودة السيد المسيح إلى وطنه سالما غانما. جَند هذا الفصيل المسيحي جميع قدراته المادية والمعنوية والإعلامية في خدمة قضية أرض الأجداد والميعاد، وأعلن عداءه الشديد للإسلام والمسلمين وجميع المذاهب المسيحية الأخرى..

هذا التوجه الجديد في الحقل الديني المسيحي بالبرازيل وأمريكا اللاتينية بدأ يسيطرسيطرة تامة، فبعد 20 سنة من ظهوره أصبح يملك كبريات الكناس في جميع المدن البرازيلية، وخاصة مدينة ساوباولو، وريوديجانيرو، وبرازيليا، وفوزدي كواسو، وكوريتيبا..وغيرها من المدن، ويقدر أتباع هؤلاء بالملايين، الأمرالذي أدخل الرعب في قلوب المذاهب المسيحية الأخرى، وخصوصا المذهب الكاثوليكي الذي كان يعتبر قارة أمريكا اللاتينية قارة كاثوليكية بدون منازع ..وبسبب الفراغ والضعف الذي نجم عن تراجع دور الكنيسة الكاثوليكية نشطت تيارات جديدة وغريبة، فقد وجد أتباع (شهود يهوه) وحركة (عباد الشيطان) وجمعيات الشواذ، وعباد اﻷرواح والطبيعة.. بجانب االعشرات من اﻷيديولوجيات والمذاهب المختلفة؛ لكن كل واحد يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، بدون عنف وﻻ إرهاب وﻻ تهديد وﻻ قتل، الكل يعبد الله على شاكلته وطريقته، وربكم وحده يعلم بمن هو أهدى سبيلا، وفي هذه الأجواء من التسامح الديني في البرازيل فلا غرابة وأنت تشاهد قساوسة ورهبان ونصارى يحتفلون مع الجالية المسلمة، بذكرى ميلاد رسول الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، مع إلقاء كلمة في حق هذا النبي محمد (ص) الذي أتى رحمة للعالمين، إنها ثمار الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وثمار التعايش بين الأديان والبشر جميعاً. السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا المقام هو: لماذا عجز المسلمون اليوم في التعايش فيما بينهم، وبين الطوائف والمذاهب المختلفة، والديانات السماوية واﻷحزاب والقوميات المتباينة وخاصة في أوطانهم ودولهم ؟

مع أن اﻹسلام له تاريخ طويل وكبير في هذا التعايش، وكلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما استقر في المدينة المنورة بعد الهجرة إليها، قام بتأسيس نظام مدني دمقراطي من أسسه وبنوده الجوهرية التعايش السلمي، وبالمصطلح الحديث فإنه أرسى مبدأ المواطنة؛ ﻷن في المدينة آنذاك كان هناك مزيجا انسانيا مختلطا؛ بحيث كان هناك مسلمون ويهود ونصارى ومشركون..فكانت وثيقة المدينة أو دستور المدينة هو الضامن لجميع الحقوق والحامي لهؤﻻء اﻷجناس المختلفة. فكيف وفَّق النبي بين هذه اﻹنتماءات وبين هذه الاتجاهات وتلك الأديان ؟!

هذا الذي اهتدى إليه الغرب، والذي نحن في أمس الحاجة إليه في بلادنا العربية واﻹسلامية اليوم، وإﻻ سنصبح نسيا منسيا؛ أو في خبر كان بين الأمم والشعوب !! .