الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: افريقيا والمغرب .. التدبير الأمثل لشراكة المصير والمستقبل

عبد القادر زاوي: افريقيا والمغرب .. التدبير الأمثل لشراكة المصير والمستقبل عبد القادر زاوي

منذ حوالي عقد من الزمن لاحت في الأفق إرهاصات تبني المغرب لاستراتيجية افريقية في السياسة الخارجية ذات طبيعة متكاملة ومنفتحة على الصعيد الثنائي مع معظم دول القارة السمراء الراغبة في مثل هذا التواصل القائم على أساس معادلة رابح / رابح، بما فيها تلك الدول التي جاهرت طويلا بعدائها للوحدة الترابية للمملكة.

تبلورت هذه الاستراتيجية بشكل تدريجي انطلاقا من قناعة ترسخت لدى صانع القرار السياسي بأن تكثيف العلاقات مع هذه الدول يمثل مجالا حيويا لمستقبل المغرب من شأنه أن يوسع دائرة مبادلاته التجارية والصناعية، وأن يعطي قيمة مضافة للتواصل مع الدوائر الأخرى للسياسة الخارجية وبصفة خاصة على الصعيد العربي والصعيد الأوروبي. ولا شك أن بعض مبادرات التعاون الثلاثي الأبعاد قد زكت هذه النظرة ( إنارة جزء كبير من فري طاون عاصمة سيراليون كانت مثالا ناجحا في هذا الإطار ).

إن هذا التعاطي المكثف مع دول القارة الإفريقية لاسيما في جنوب الصحراء سيشهد زخما أكبر، وسيترسخ أكثر منذ أن وجد له سندا قانونيا قويا في تصدير دستور سنة 2011، الذي تضمن التزاما صريحا من الدولة بالتأكيد على "تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية ولا سيما بلدان الساحل وجنوب الصحراء".

ولا شك أن محتوى هذا التواصل مع معظم دول القارة سيغدو دسما ومتنوعا بعد أن لاقت هذه الاستراتيجية ترحيبا من لدن أوساط المال ورجال الأعمال المغاربة، الذين استشعروا مبكرا مخاطر الانسداد التدريجي لآفاق التبادل مع أوروبا، وضبابية مستقبل التعاون مع أغلبية بلدان العالم العربي المنشغلة كلها بقضاياها وهمومها الداخلية وتطورات محيطها الإقليمي من جراء تداعيات ثورات الربيع العربي واحتجاجاته.

ولم يكن غريبا أن تواكب هذه الاندفاعة المتميزة نحو دول القارة السمراء خطوات ثقافية ورياضية والتفاتات ذات طبيعة إنسانية تمثلت في تسوية أوضاع الإقامة للآلاف من مواطني دول جنوب الصحراء الذين بات المغرب بالنسبة لبعضهم دولة مقر بعد أن جاؤوه على أساس أنه مجرد ممر نحو ما يتخيلونه من فردوس أوروبي.

ومع مطلع سنة 2017 ستتوج الاستراتيجية الإفريقية للمغرب بالانضمام إلى الاتحاد الإفريقي، الذي جرى التنويه إعلاميا بأنه يعتبر حدثا تاريخيا وعودة مظفرة للبلاد إلى محيطها الطبيعي وجذورها الجغرافية الأصلية، وأنه يمثل قطيعة نهائية مع سياسة المقعد الفارغ ؛ كما ستتبلور أكثر جدية الانخراط المصيري فيها بتقديم طلب الانضمام إلى اللجنة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا CEDEAO.

فما هي ثمار هذه الاستراتيجية، وكيف انعكست اقتصاديا واجتماعيا على القطاعات الاقتصادية المختلفة في البلاد، وعلى الملف الشائك والمعقد لوحدتها الترابية ؟

*على صعيد العلاقات الثنائية :

تضاعف الحضور الدبلوماسي المقيم للمغرب في العديد من دول القارة السمراء، واقتحم لأول مرة وبقوة وبعيدا عن المراكز التقليدية عواصم في شرق القارة ( زامبيا، تنزانيا...) ؛ الأمر الذي ساعد في قيام عدد من الدول بسحب اعترافها ب"جمهورية المخيمات" أو تجميده على الأقل، كما تزايد حجم الاستثمارات في بلدان غرب القارة بصفة خاصة وتنوع كثيرا بين مجالات الأبناك والاتصالات والصناعات التحويلية  ( الإسمنت والأسمدة والتنقيب عن المناجم المعدنية ).

وإذا كان من المبكر التساؤل عن مردود هذه الاستثمارات على الواقع الاقتصادي للمغرب وعلى ميزان التبادل التجاري مع كل دولة على حدة، فإن تحذيرات صدرت من مؤسسات دولية نبهت إلى إمكانية وجود مخاطر كبيرة من جراء توسع الأبناك المغربية في دول القارة الإفريقية جنوب الصحراء، بل إن الوكالة الأمريكية للتصنيف الائتماني "موديز" حذرت من تأثر الوضع الائتماني لأبناك مغربية جراء هشاشة الأوضاع السياسية والأمنية ؛ ناهيك عن العديد من الاستثمارات الفاشلة في التنقيب عن المعادن النفيسة ببعض الدول الإفريقية.

ولا يختلف اثنان في أن الهشاشة السياسية والأمنية لبعض الدول مضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قادت آلاف المواطنين من دول جنوب الصحراء الكبرى إلى ركوب طريق الهجرة غير الشرعية نحو دول شمال القارة على أمل العبور الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.

ومع تشديد المراقبة الأمنية الأوروبية ضد موجات الهجرة هذه، انتقل المغرب في أعين العديد من هؤلاء الماهجرين من دولة ممر إلى دولة مقر ؛ الأمر الذي حدا بالسلطات المغربية إلى العمل من اجل تسوية قانونية وشرعية لتواجدهم، سيما أولئك الذين اندمجوا بشكل مباشر وغير مباشر في الدورة الاقتصادية الإنتاجية بالمملكة ( باعة متجولون، حرفيون، عمالة منزلية وعمالة فلاحية...).

وبقدر ما كان الترحيب الدولي والدعم المعنوي لهذه المبادرة، بقدر ما تزايدت أعداد المهاجرين بتواطئ صامت أحيانا من دول الجوار، ما جعل الاحتكاك بالمواطنين المغاربة أمرا محتوما، مولدا العديد من النزاعات ومفجرا مجموعة من الانتقادات لكثرة هذا التواجد وما بات يمثله بعض هؤلاء المهاجرين من إزعاج أمني كان أبرز مؤشر عليه ما حدث في بعض أحياء مدينة طنجة، وحوادث المحطة الطرقية ولاد زيان بالدار البيضاء.

إن التداعيات الأمنية الخطيرةهذه تتطلب أن يعالج الموضوع من زواياه المختلفة، وليس فقط من جانبه الأمني، لأنه ينذر بعواقب وخيمة. يكفي دخول بعض مواقع التواصل الاجتماعي الإفريقية لإدراك حجم المرارة بل والحقد الذي تكنه شرائح واسعة من مواطني دول جنوب الصحراء لدول شمال القارة، ومن بينها المغرب.

*على الصعيد الجماعي والتفاعل مع المنظمات القارية :

شكل قرار المغرب الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي مفاجأة كبيرة للعديد من الأوساط في الداخل والخارج على حد سواء، سيما وأنه لم يقترن بأي شرط ولم يصحب التوقيع على الميثاق والتصديق عليه برلمانيا بأي تحفظ على وجود "جمهورية المخيمات" التي تفتقر لكل مقومات الدولة حسب قواعد القانون الدولي، فلا أرض لها إلا ما تعتبره محررا فيما هو مناطق عازلة في قاموس الأمم المتحدة، ولا شعب لها إلا من تحتجزهم عنوة في مخيمات توجد على أراضي دولة أخرى، وهي تنسف بنفسها طبيعة مفهوم السلطة الذي تريد ارتداءه حين ترى نفسها حركة تحرير أيضا.

وإذا ما كانت مواقف الأوساط الخارجية من الخطوة المغربية قد تباينت بين المرحب والرافض واللامبالي وفقا لمصلحة كل جهة، واختلفت تقديراتها تبعا لذلك ؛ فإن الأوساط الداخلية ظلت تترقب ما بعد الخطوة، وكيف ستتطور الأمور، خصوصا وأنه في غمرة الحماس لخطوة الانضمام والتهليل لها لم يتردد بعض الذين كانوا في صدارة المشهد الإعلامي حينها من إطلاق وعود كبيرة وصل أحدها حد التنبؤ بأن أيام "جمهورية المخيمات" في حظيرة الاتحاد الإفريقي معدودة، بل هاجموا كل الأصوات التي نبهت إلى أن طرد المرتزقة أو تجميد عضويتهم على الأقل يحتاج إلى تعديل جوهري للميثاق الإفريقي ليس من السهل أبدا إتمامه في غياب قواعد قانونية تحكم ذلك.

والآن وقد مرت سنة على هذا الانضمام، وفي غياب محاولات جادة لإقصاء "جمهورية المخيمات" من المنتظم الإفريقي يسود الاعتقاد أن نوعا من التعايش مع الأمر الواقع بدأ يترسخ تدريجيا، إذ لم يعد مستهجنا الجلوس مع ممثليها تحت سقف واحد. لقد رأينا في القمة الخامسة الأوروبية الإفريقية الأخيرة في أبيدجان كيف وجد المغرب نفسه يجلس إلى جانب "جمهورية المخيمات"، وهو الجلوس الذي جرى التعتيم عليه إعلاميا بفضل الأصدقاء الإفواريين الذين استقبلوا وفد المرتزقة على مضض.

والحقيقة أن ما حصل في تلك القمة يسائل الحكومة المغربية عن مدى فشلها في رصد التغيير الذي حصل في الصيغة الأولية للتعاون الأوروبي الإفريقي ؛ تلك الصيغة التي كانت تعتمد معايير الأمم المتحدة التي جرى على أساسها استبعاد "جمهورية المخيمات" من القمم الأربع السابقة. فكيف حصل التغيير من صيغة ( الاتحاد الأوروبي / افريقيا ) إلى صيغة ( الاتحاد الأوروبي / الاتحاد الإفريقي ) ؟ وعلى أي مستوى حصل التغيير ؟ وأين كان المغرب حين حصل ذلك ؟

إن هذا المعطى مضافا إلى :

1/ ما يحاك من مناورات بشأن قبول أو رفض عضوية المغرب في اللجنة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا CEDEAO.

2/ ما يدور من جدل في أوساط إفريقية وأوروبية عن استبعاد المغرب من أي عمل جماعي لمحاربة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء أو ضمه لذلك بصيغة لا تمنحه أي امتياز من شأنه استفزاز الجزائر وموريتانيا إلى حد ما.

3/ ما يبدو لدى الألماني هورست كوهلر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة حول الصحراء من رغبة ولو خجولة في إعطاء دور ما للاتحاد الإفريقي في مساعيه لاستئناف المفاوضات وفق معطيات جديدة، كما اتضح ذلك خلال لقائه برئيس المفوضية الإفريقية بحضور رئيس مجلس السلم والأمن.

4/ ما قد تضعه قوى منافسة للوجود المغربي هناك من مطبات في طريق المساعي المغربية إن كان ذلك على الصعيد الاقتصادي أو السياسي.

كل ما سبق يثبت أن طريق التوجه نحو إفريقيا جنوب الصحراء بقدر ما هو ضروري واستراتيجي بقدر ما هو غير مفروش بالورود، وإنما تعترضه عراقيل عديدةينبغي تقوية أدوات الاستشعار الاستباقي لرصدها، وتدبير الطرق المثلى للتعامل معها.

وقبل ذلك يحتاج هذا التوجه إلى إقناع الرأي العام الوطني بسلامته وصوابه وفائدته، وما يحمله من انعكاسات إيجابية على المغرب بالفعل الملموس، وليس بالكلام المعسول، ولا سيما لدى فئة الشباب التي تغذي أحلاما في الاتجاه المعاكس نحو القارة الأوروبية.

إن سياسة الرهان على المستقبل في إفريقيا ستظل نخبوية وبيروقراطية محدودة الأثر والتأثير ما لم تستطع إقناع رأي عام اعتادت أعناقه أن تشرئب بشكل تلقائي نحو أوروبا. فهل لدينا القدرة على تغيير البوصلة ؟ من الممكن ذلك إذا ابتعدنا عن أساليب التطبيل والتهليل، واستخدمنا المنطق والعقل في التحليل.