الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

د. خالد فتحي: قراءة في المشهد الإيراني

د. خالد فتحي:  قراءة في المشهد الإيراني د. خالد فتحي

 

أظهرت الاحتجاجات الشعبية المندلعة بإيران أن ليست هناك دولة إسلامية أو عربية بمنأى عن لهيب التظاهر والانتفاضات. وأن للشعوب بصفة عامة حسابات و أحلاما ليست بالضرورة مطابقة لحسابات وأحلام أنظمتها. وأن هناك دائما في السياسة ما وراء الأكمة مما لا يرى ولا يحسب حسابه ينزل فجأة كضربات القدر على الأنظمة.

الذي كان ينظر إلى إيران منذ أيام خلت، وهي تجوس خلال الديار العربية كزعيمة للتيار الشيعي في العالم الإسلامي، كان لا يراوده أدنى شك في أن إيران قد فرغت من مشاكلها الاقتصادية، ولا تؤرقها أو تشغلها الجبهة الداخلية، وأن الشعب الإيراني ماض في تصدير (فائض) الرخاء الذي يرفل فيه إلى دول الجوار من العرب الغارقين في أتون الفرقة والاقتتال والطائفية المذهبية، إلى أن فاجأته صور الإيرانيين والإيرانيات على الفضائيات في مشاهد متوترة تعيد مباشرة إلى الأذهان مشاهد بدايات الربيع العربي.

وهكذا، وفي عز الصراع السعودي الإيراني إذن، و خضم تصميم واشنطن على تضييق الخناق على الحليف القديم، الذي تحلم لليوم باسترجاعه لحظيرتها، يحرج الشعب الإيراني نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويثلم فيه صورة البلد المتماسك الذي ينازل الأقوياء على الساحة الدولية بندية مبهرة. الصورة التي طالما روج لها ملالي إيران، لكي تميزهم عن غيرهم من البلدان، لدرجة أن كاتبا سعوديا كجمال خاشقجي استقصدها بالضبط، و اعتبر في مقال له بمهجره فيما يشبه لمزا لا يكاد يخفيه، أن الشعب الإيراني هو الحليف الجديد غير المتوقع الذي جادت به (السماء) على الرياض.

لقد كان مشهد الاعتقالات والمواجهات بين الأمن والمنتفضين، والشغب الذي رافق الاحتجاجات التي انتقلت بسرعة من مدن ضئيلة الشأن إلى مدن ذات رمزية كبيرة كطهران وأصفهان، وسقوط قتلى، وتحطيم الممتلكات العامة وإضرام النار فيها، صادما لكل من كان مأخوذا بالنموذج الإيراني لولاية الفقيه، وهو يتضح له بالملموس، وبالصوت والصورة، أنه مثل باقي نماذج الحكم الأخرى غير معصوم من خروج الشعب فيه ضد الفساد والاستبداد، و ضد اتساع رقعة الفقر والهشاشة والتهميش، والقسمة الضيزى في توزيع خيرات البلاد، و لا ضمانة أو حصانة (ربانية) له من اندلاع الفتن و الثورات متى قض (الجوع) البطون الخاوية، و تهيأت الظروف لذلك، وسنحت الانتفاضة.

لقد كان طبيعيا جدا أن تختلف ردود الأفعال تجاه ما يجري بإيران باختلاف المواقف من نظامها، ومن دوره المتعاظم على الساحتين الإقليمية والدولية. فعيون الرضى ترى ما وقع مؤامرة دبرت بليل من جهات عدوة كثيرة تتربص الدوائر بطهران. ولذلك لا تفتأ ألسنتها تردد أن المطالب ذات طبيعة اقتصادية محضة، وهو ما معناه بالخصوص أن التظاهر يتم ضمن حدود دائرة النظام، مما سيتيح بالتالي من وجهة نظرها تحسين ظروف العيش للإيرانيين، و حقن (المارد) الفارسي بـ(منشطات ديمقراطية) ضرورية إسوة بكل الديمقراطيات التي تتيح حرية التعبير والتظاهر، وعيون السخط تنفخ إعلاميا في حدة الاحتجاجات وقوة الشعارات، وتنفث فيها من متمنياتها، لتنشر بالتالي على الملأ أن إيران تكشفت في النهاية نمرا من ورق منخور من جوفه. وأن الأولى بها أن تلتفت لشعبها، وتحسن ظروفه، وتكف فورا عن حشر نفسها في مشاكل الآخرين، و تتعهد الإيرانيين قبل أن تتعهد مجموعة من الدول (الفاشلة) التي أصبحت عبئا ينوء به كاهلها قد حان أوان (فطامها). ولذلك يركز أصحاب هذا المنحى على الطابع السياسي للمطالبات. وهو ما معناه أن التظاهر يتم في وجه النظام وضده. ولن يتوقف حتى يؤدي في النهاية لإسقاطه.أو على الأقل إلى التطويح بقداسته الثيوقراطيته من العلياء التي يوهم بها أنصاره وإثبات (دنيويته) للجميع .والحقيقة أنه أمام هذين الرأيين المتقابلين، نجد أن في الأمر شيئا من ذا وذاك، أي أنه مزيج كليهما معا:

ومما لاشك فيه، أن خصوم إيران يتحرقون لنقل الصراع معها إلى الداخل، بعد أن تبين توغلها أقليميا في محيطها، وبدت ( جسارتها) وصلابة أداء اذرعها القتالية على الأرض بدول المواجهة وحشد النفوذ. وهم يكدون لأجل ذلك ليل نهار. وهذا ليس بمؤامرة بقدر ماهو تنويع لأسلوب الصراع، و( تفنن فيه)، و نقل لأرض المعركة إلى حيث تألم إيران أكثر، وحيث تكون المكاسب أوفر من خلال وضع طبيعة النظام نفسها على المحك في اختبار الصمود والبقاء، أو شغلها على الأقل بنفسها. الكل يتذكر في هذا الصدد تلويح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ مدة بنقل الصراع إلى داخل ايران، كما أن تغريدات ترامب، وحبوره المعلن بسبب هذه الاضطرابات، وتأكيده (المتخابث) على وقوف الولايات المتحدة بجانب الشعب الإيراني عندما يحين الوقت المناسب لذلك، لم يباغت أحدا.

وقد يعد دليلا على أن هناك يدا خارجية تخوض في الماء العكر، وأن هناك (مندسين) و(عملاء) وحانقين على النظام يصبون الزيت على النار لمزيد من اشتعال الاحتجاجات.

لكن العامل الخارجي، وإن بدا شرطا محفزا ولازما ،إلا أنه ليس كافيا لاندلاع أزمة داخلية بهذا الحجم، لأنه لا أحد ببساطة توقعها في هذه الآونة وبهذه الحدة، وفي غمرة تقدم إيراني على أغلب الخطوط وواجهات الصراع. ولأن الإيرانيين كانوا معارضين أو موالين لهذه الهبة، لا يأخذون وعود ترامب على محمل الجد. لأنهم يجمعون على أن الحصار الأمريكي هو أحد أهم أسباب بلاويهم الاقتصادية التي كانت المحرك الأساسي للخروج للشارع. وأن الود الأمريكي لاحتجاجاتهم مخاتل ومنافق فقط، و قد يضر بها أكثر مما قد ينفعهم. ولكن هناك أسبابا داخلية لا تقل وجاهة دعت هؤلاء المتظاهرين لشق عصا الطاعة تتجلى في وطأة النظام عليهم الذي ينفس عليهم جرعات ضرورية يريدونها وخصوصا السباب منهم للانفتاح على الحياة الغربية بكل مغرياتها التي تغزوهم على شاشات الحواسيب والهواتف. وفي سوء إدارة الاقتصاد وتفضيل الحلفاء على الأبناء في الإنفاق.

فالواضح أيضا أن تكاليف الحروب التي خاضتها إيران في منطقتها قد أنهكتها، واستنزفتها اقتصاديا، وعرضت وئامها الاجتماعي إلى خطر التفكك والانهيار، خصوصا بعد أن لم يجن الشعب شيئا يذكر من الاتفاق المنوي الذي يحسن ترامب المماطلة في تنفيذه...... شيء ما شبيه بما وقع للاتحاد السوفياتي الذي أدت به مجاراة إيقاع السباق نحو التسلح، واللهاث وراء حرب النجوم مع أمريكا، والتيه في المجاهل والأغوار الأفغانية إلى الاندثار والانزواء إلى أرشيف التاريخ.

لم تكن المهام التي اضطلعت بها إيران في العراق واليمن ولبنان وسوريا دون ثمن، فقد أكلت من شحمها ولحمها وربما من عظمها، حيث استشرى التضخم، وغلت الأسعار، بما في ذلك سعر البنزين الذي تصدره طهران ، وتفشت البطالة بين الشباب الذي ينقم وضعه، و تغريه وسائل التواصل الاجتماعي بحياة أكثر رغدا بل وتزيد فتشرح له أن ذلك ممكن إن استثمرت الصفوة السياسية والعقائدية إمكانيات إيران لإيران فقط.

دروس كثيرة يمكن استنباطها من الحالة الإيرانية منها:

1/ إن القوة العسكرية يجب أن يعضدها بنيان اجتماعي متراص، وأن الاستثمار في المجال النووي، والتفوق في تنفيذ أجندات خارج البلاد، لا يمنع قيام ثورة من الخلف بسبب غذاء زهيد كالبيض، فعندما تتراجع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، قد يأتي الشر من مستصغر الشرر.

2/ أن الحكم الديني أو الثيوقراطي ليس موعودا بعدم الانحراف، أو عدم قيام الثورات تجاهه ،وأنه يخضع أيضا لسنة الأعمار الثلاث لابن خلدون، هذا إن لم يكن أكثر من غيره من باقي الأنظمة، ولو اعتمد قواعد وآليات الحكم الديمقراطي.

3/ أن نظرة الفقراء والنخبة الحاكمة مختلفتان لأمجاد التسلح و القوة العسكرية،و صناعة النفوذ والتمدد ، التي يهيم بها القادة العسكريون والسياسيون، بل تصبحان متصارعتين حين يدهم الشعب الغلاء، وينسد أمامه أفق العيش السهل.فما يعنيه أولا وأخيرا هي تفاصيل حياته اليومية وسلة الغذاء، ومتطلبات العيش الكريم.

4أن الكيد المذهبي والعسكري للخصم قد يحيق بأهله، حين لايتم تأمين الظهر من تمرد أهل البيت عبر مكافحة الفساد وإحلال المساواة الاجتماعية بين مختلف الشرائح.

5/ أن أخطر الاحتجاجات هي التي تكون دون آباء واضحين لها ، لأنه من جهة يصعب القضاء عليها وإخمادها، ومن جهة أخرى تنم على أن الامتعاض والنقمة على سياسة النظام أو الحكومة قد سريا في أوصال المجتمع برمته، وتحولا إلى لحظة مفصلية، تشى بتحول في القناعات، وفي النظرة إلى النظام وصلاحه، خصوصا مع تناسل المنتديات الرقمية، و طوفان ملايين الرسائل المؤطرة أو المحرضة التي أصبحت توفرها وسائل التواصل الاجتماعي.

6أن المآسي التي أسفر عنها الربيع العربي بكل الدول العربية التي زارها لن تثني دولا أخرى أخطأها في السابق من أن تسلك نفس سبيل الاحتجاج والتظاهر. وأن العاصم الحقيقي في إيران كما في غيرها من الدول العربية من موجة ثانية للثورات، هو الانكباب على حل المشاكل العالقة للشعوب وتحسين الأنظمة لعروضها الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية.

7أن الحراك الإيراني ماهو إلا برهان على حالة السأم والملل التي تسربت و ستتسرب لاحقا إلى كل الشعوب المسلمة بالمنطقة من حروب بلا مجد تخوضها الدول باسم الصراع السني الشيعي، الذي يضر بكل الأطراف، ويلهي الأمة الإسلامية عن معركتها الحقيقية بفلسطين المحتلة.

وفي الأخير قد يكون وقع لإيران مثلما يقع لرب أسرة يواجه تذمر أفرادها بعد أن أهدر اغلب المال في إجزال العطاء لانتشال الأصحاب من أزماتهم و في المغامرات خارج أسوار الدار، وقد يكون النظام في إيران على العكس من كل هذا قد أجبر بفعل شروطه الوجودية على أن يضع المتاريس خارج البلاد، لحمايتها من عسف وظلم ذوي القربى دينيا ويحميها من المتربصين الآخرين ممن يسميهم قوى الاستكبار العالمي.

ولربما ستخرج في النهاية ملايين مؤيدة للنظام في مسيرات حاشدة ستمثل أكثرية حاسمة تربح طهران بفضلها الرهان وتجتاز دون خسائر كبيرة هذا النفق، أو قد ينهي الحرس الثوري (الإنفلات) بنجاعة في وقت وجيز. ولكن المؤكد أن طهران لن تبق هي نفسها في المدى القريب بعد أن لفحها حر هذا الاستياء الشعبي، فتصبح أكثر احتراسا وتشتغل على الواجهتين الداخلية والخارجية معا. فهما بالنسبة لنظام الجمهورية الإسلامية مثل فرسا رهان عليهما أن يبقيها دائما بحذاء بعضهما البعض... حتى تسلم الجرة.ومن المؤكد أيضا من جهة أخرى أن حتى من يبتهجون الآن لمحنة أو نزلة البرد الحالية لإيران، يخشون في قرارتهم أن تلسعهم العدوى.... فهل ياترى ستجرؤ كل دول المنطقة على أن تعيد حساباتها لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وتطوي علينا صفحة الخلاف السني الشيعي ؟؟ وتتفرغ لتحقيق رفاهية الشعوب؟؟ ... ذاك هو السيناريو الطوباوي حقا، لكنه ليس بالسيناريو المستحيل.