السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

مصطفى أيت علال: الرقية الشرعية أو صحوة الخرافة والدجل

مصطفى أيت علال: الرقية الشرعية أو صحوة الخرافة والدجل مصطفى أيت علال

في الوقت الذي كانت فيه الشعوذة تتلاشى خيامها برحاب أسواقنا، وتقفل ديارها ببعض أحياء مدننا العتيقة منذ التسعينات، مبشرة بميلاد مرحلة جديدة من الحس الصحي، كان صدى الرقية الشرعية، يصل إلينا تدريجيا حتى اجتاح ليس عامة الناس فقط بل نخبتها المتعلمة.

ولما كان تراجع الأولى مرتبطا بتحسن دخل ووعي الناس، واتساع فرص التطبيب ونجاحه في القضاء على العديد من الأمراض، كان تنامي الثانية قد ارتبط بنشاط الحركة الدينية والسياسية المسماة ب"الصحوة الاسلامية" التي انطلقت بالشرق العربي في مستهل السبعينات .

تلاشي الأولى وتنامي الثانية لم يكن يعني تحولا على مستوى المضمون والفعالية، بل على مستوى الشكل: فآيات القرآن غالبا هي المستعملة، بينما تم استبدال بعض التسميات كالفقيه و"السبوب" و"المسلمين" والبخ، بالراقي والرقية والمس والنفث، أي تعريب ما هو دارج أو تكييف الألفاظ مع لغة العصر.

وقد تم استعمال وسائل الاتصال والتواصل الحديثة للإشهار و"الاستشفاء" عن بعد. وظهرت العديد من الدكاكين أو المقرات من النوع الرفيع التي تحتل الشوارع المهمة لمدننا. وأصبح العديد من الرقاة بثروة لا تقارن بدخل الفقيه بالماضي الذي كان يكتفي بمقابل مادي هزيل يسمى بـ "الفتوح".

الرقية أضحت بمثابة تحديث لما كان يمارسه الفقيه أو "الشريف " بالأمس ووسيلة للترقية المادية اليوم، وتطلب ذلك شرعنة هذه الممارسة من خلال الاعتماد على نقل مجموعة من النصوص التراثية التي تدفع المسلمين إلى الاعتقاد بانتمائها إلى الدين. ولهذا الغرض تم إلصاق لفظ الشرعية على ممارسة الراقي، فكان ذلك سببا في تعطل العديد من العقول حتى تلك المحسوبة على النخبة المتعلمة، المفروض فيها التوجه إلى الطبيب للاستشفاء من أمراضها، عوض الاستسلام لأشخاص بعيدين عن العلم، بل لا يكتفون بتلاوة آيات من القرآن ويتجاوزون ذلك إلى ممارسة الكثير من أفعال السحر والشعوذة والنصب والاحتيال.

شرعنة الرقية هي التي منعت المتعلم من أن يسأل: هل حقا يمكن للجن أن يلبس الإنس؟ ولماذا لا يلبس الإنس الجن؟ وهل توجد إثباتات علمية أو دينية لذلك؟ وهل القرآن علاج للأمراض أم رسالة للعالمين؟ وأية علاقة بين المس والأمراض وآيات قرآنية موضوعها الأخلاق والشعائر؟ وهل الرقية من الأخلاق أم من الشعائر، أم لا هي من هذه ولا من تلك؟ ولماذا الراقي وحده من له القدرة على إشفاء الناس من الجن؟ هل تلقى تعليما مكنه من تشخيص المس وتحديد الوصفات القرآنية/ الطبية؟ وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا نستغني عن المستشفيات و جامعات الصيدلة والطب؟ بل أليست القراءة أو الاستماع للقرآن أمرا متاحا لجميع المسلمين، وبالتالي فالوقاية من كل أنواع المس والمرض أمر ممكن؟

أسئلة كان طرحها سيحل اللغز الذي دفع الكثير من المتعلمين إلى تصديق الرقية الشرعية، بل وتقودهم إلى طرح أسئلة أخرى: من أين تستمد الرقية شرعيتها؟ هل من القرآن أم من مرويات المحدثين؟ أم لا شرعية لها؟

غياب طرح الأسئلة هو من سوء فهم لمقاصد الدين ومصادره، ومن عدم القدرة على التمييز بين الوحي الالهي وفهومات الناس لهذا الوحي، وهجرة المسلمين للقرآن وذهابهم إلى المرويات .

وإذا ما عدنا  إلى القرآن الكريم، فإن الآيات التي تتناول الشفاء بالقرآن، لا تقصد المرضى بل المؤمنين ولا تقصد المرض بل العقيدة، وكان النزول في سياق ذلك الصراع الذي كان قائما بين الكفار والمسلمين ومن هذه الآيات :"وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِيـنَ إِلَّا خَسَارًا"(82) الإسراء، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (57) يونس.

فالقرآن دواء للجهل والضلال الذي في الصدور. إنه الموعظة والهدى والرحمة. إنه الطمأنينة. إنه الشفاء من الشك. وهذا ما أجمع عليه المفسرون الأوائل، لكن أصبح القرآن دواء لكل الأمراض. بعدما ألغى البعض سياق النزول وكيف الآيات مع فهمه الخاص.

ولما تم فهم القرآن على المقاس تم دعم ذلك بمرويات عن سيرة النبي تتحدث عن رقى الحمة ولسعة العقرب والعين وغيرها. ولنأخذ مثالا من الأحاديث :فعن علي بن طالب قال: "لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ بـ "قل يا أيها الكافرون" و"قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"،  رواه الطبراني .

فهل الرسول شفي بواسطة الماء والملح وآيات القرآن، أم أن سم العقرب لم يكن قاتلا؟ ثم أكل من لسعته عقرب في يومنا هذا يلقى حتفه أم أن العقارب أنواع؟ وإذا كانت الرقية الشرعية تنجي الملسوع فلماذا لا يجرب الراقي في جسده لسعة عقرب قاتلة، ويقرأ بعدها الرقية الشرعية ويرى؟

إن النبي ومعه ناس عصره، قد تداووا بما كان متاحا في حدود فهمهم وإمكانياتهم، ولم يكن هو طبيبا ولا صيدليا ولا عالم أحياء. بل كان بشيرا ونذيرا. واستعمال الماء والملح ليس اختراعا نبويا، بل وجده في مجتمعه. بل حتى الرقية حسب المرويات وجدت قبله، وكان ينهى عنها لما كانت تحتويه من شرك. وقد يكون حث قومه على قراءة القرآن لتعوض هذا الشرك وليس للاستشفاء. والمعروف أن المتألم قد يصدر أصواتا أو كلاما للتخفيف من حدة ألمه كما تفعل المرأة أثناء المخاض. وردود الفعل الصوتية هذه ومضمونها يختلف من مجتمع إلى آخر. ولذلك كان من عادات العرب كغيرهم قبل الاسلام أن يقرؤوا الرقية وهم يتألمون.

إن شرعنة الرقية التي جاءت بها الصحوة المسماة إسلامية خلال السبعينات أضفت القداسة عليها، وعطلت عقول الكثير من المنتسبين إلى النخبة المتعلمة فصدقوها وخضعوا لها، واشتغل البعض بها وأصبح من محترفيها. ودخل في عالم من التخيلات والأوهام جعلته يعتقد أنه يمتلك قدرات لإشفاء أمراض نفسية وعضوية يعتبرها مسا من الجن أو السحر أو العين أو الحسد. وعوض أن ينشر العلم والمعرفة ينشر الخرافة في تناقض صارخ مع موقعه المعرفي والعلمي وانتماءه الديني .

وبالموازاة مع هؤلاء الذين سقطوا ضحية لهذه "الصحوة" هناك فريق آخر يدرك جيدا أكاذيبها ولكنه ينتهز الفرصة لممارسة مختلف أشكال النصب والاحتيال. فيسترزق ويغتصب ويشبع حاجاته الجنسية.

وهكذا عوض أن تكون الصحوة صحوة للعلم والمعرفة والقيم النبيلة تصبح صحوة للخرافة والدجل، والنصب والاحتيال.