الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

يحيى المطواط: حتمية العودة

يحيى المطواط: حتمية العودة يحيى المطواط

نعود يوما إلى الماضي، حيث تنتظرنا في الذاكرة وجوه كل الأشخاص الذين سافروا معنا، وفرقتنا عنهم محطات الحياة، وسنجد في انتظارنا كل الشوارع والدروب والمنازل التي شهدت خطواتنا وتحملت أخطاءنا، سنجد كل المشاعر صامتة لهجرتها لها، سنجد الذكريات تنتظر احتضاننا لها وبقوة لنعتصر منها أيامنا الماضية، ربما آن الأوان لنقوم بمصالحة مع ماضينا ومن خلاله مع ذواتنا.

سنعود يوما إلى ذواتنا، فمرور الأيام علمتنا كيف نواجه أنفسنا كيف نعَنّفها بقوة على جرأتها... على تكبرها وتمردها... وعلى تماديها، كانت المواجهة التي قررت أن أقفها مع ذاتي، مواجهة شرسة وأليمة، بعيدة وقريبة، ساكنة وهائجة.

اهتزت أحاسيسي بقوة، وحركت بي مشاعر مكبوتة لا تقوى على الحراك أو أنها لا تجرؤ على ذلك، ارتعشت يداي، تساقطت دموعي، تمسكت بالحب الذي احتضنه، ذلك الحب وآه من ذلك الحب الذي يحمل في طياته حزن الأيام ووجع الليالي، ذلك الحب لو أرمي به إلى الهاوية، وأجعل منه رمادا منسيا، لكنه كل الماضي والحاضر بما يحمل من آلام وأحزان، وعدت لذلك الحب لأبحث عن وجه حبيبتي، لأستحضر كل ما هو جميل، لأبحث عن ذات قريبة إلى نفسي.

لكني لم أجد ما بحثت عنه، ضاعت تلك الذات في دروب السنين، فهل أتقدم بضع خطوات فأجدها قد سبقتني وتنتظر قدومي أو أرجع سنوات لعلني أجدها قد ظلت الطريق وتنتظرني لأن أصطحبها معي.

لا أريدك أن تكوني فقط مجرد ذكرى عابرة في حياتي... أنتِ من بددت وحدتي الدائمة.. أنت الأمل والأمان وكل المعاني الجميلة أنا بحاجة إلى كلماتك تروي عطشي، بحاجة إلى رأيك يهديني الطريق، أحتاج إلى همسك وخيالك يؤنسني، وأن أشق الظلام أحتاج إليك، إلى وجودك يشعرني بالأمان وأنك معي في كل مكان، ومن منا لا يخلو من ذكريات فرحة أو حزينة، جميلة أو سيئة.. ومن منا لم يمر بأحداث غيرت كيانه....، وها أنا أعود ألملم أشلائي في ذاتي التي أنا في أمس الحاجة إليها الآن.

لا أدري لماذا ماتت بداخلي الرغبة في معركة الحروف، فلقد أصبحت أناملي مثل قطع الخشب المزروعة على ضفاف نهر تعرت مع الزمن، وأصبحت لا تصلح حتى لطير أن يسكن فوقها بعد سفر طويل.

لا أدري لماذا لم تعد أفكاري تتنامى بسرعة جنونية كلما عانقت ذكرى... أو رأيت شبحا من الماضي... وحين أجلس لمؤانسة وحدتي يرفض القلم إلا أن يكون جمرة بيدي.. وأصرخ من لسعة النار ولا أعرف باب الكتابة.

أعرف جيدا أنني لست محترف قلم، لكنني على اقتناع بأنه لدي رغبة حارقة على معانقة القلم ومرافقة الحروف، تلك الشهوة التي لازمتني طوال فترة تواجدي مع رفاقي في المنظمة، في مقهى موسى أو في المقر الكائن "بباب الجمعة" من خلال صناعة مقال أو كتابة تقرير أو صياغة أرضية ما... كنّا نعانق الكلمة كمعتكف في زاوية مسجد ينزوي إلى عبادته.. لا أدري لماذا ذابت تلك الشهوة الحارقة، حتى تلك الارتعاشة الهادئة أو نشوة "النصر" حين كان يُدوّن إسمي في جريدة ما تحت مقالة ما أصبحت ذكرى من ماض.

لقد أصبحت إنسانا هرما أخاف من حروفي ومن أفكاري، أخاف حتى من تلك الحبيبة الرائعة التي سكنتُ في زهور صداقتها وسكبتُ ماء حنانها قطرات حب، وحتى تلك الصديقة التي أعترف أني كنت عنيفا معها في كلمات عتابي لها، أودّ أن أكتب لها رسالة اعتذار أو بطاقة شكر.

ما عادت عيوني ترغب في معانقة الحروف، لعلني احترقت من وحدتي وغربتي فأصبحت رمادا بلا نار، أو لعلي أصبحت لوحا من الثلج في بلاد اغترابي، فإن عانقت نار الشوق تحطمت وأصبحت بخارا لماء، لقد سقط جسدي تحت سوط الآلام وأصبحت أعاني ألم الحقيقة وخوف الواقع أكثر من ظلمة الغربة وكهف الانفراد...

لا أدري لماذا كل هذا.. لكني أعلم حقا أننا حتما سنعود...