السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: الشِّعْر؟ هو الحق في كتابة يأس جميل!

عبد الحميد جماهري: الشِّعْر؟ هو الحق في كتابة يأس جميل!

لا يكون الشعر، كي تكون الحياة أفضل، بل يوجد لكي تكون تراجيدية، وتكون قريبة من صاحبها.

أو شبيهة به إلى الحد الذي يجعله يعتقد بأنه حي!

في الواقع ظل الشعراء يعتقدون بأن الحب وحدهقادر على قتلهم

والجمال وحده يقتلهم، أو قادر على أن يجعلهم يفتحون له الأذرع كعدو حميم وجميل ويليق به أن يطعنهم.

غير أن الحب، لم يقتل أحدا منهم..

الحب يشق القلب إلى نصفين، كما يقول الشاعر درويش، ويذكرهم بأنهم عاطفيون على مزاج كأس قهوة أو سيجارة بجوار النهر أو مزاج النبيذ..

وعلى مناخ الارتباك، مثل زهرة في بداية أبريل

أو مثل مطر في ليل صيفي يحتار في تعريف نفسه كلما سألته ضيفته الشجرة!

والجمال بدوره لم ينقذ الكثير من الشعراء الذين بقوا مكتوفي الخيال إزاءه.

وهم مثل كل عشاقه، حمقى، يذهبون إليه مرغمين: لا أحد يحب الجمال طواعية، أو بإرادة منه. نحن نحبه لأنه قريب من التراجيديا، ولأنه يذكرنا بشرط الهشاشة الواجب في الكينونة.

لهذا يكون الشعر دوما محاولة تصعيد جمالي، بشقاء الكائن!

والذي يقتل الشعراء في وقتنا الحالي، هو الضجر

أو السرد الروائي

أو السينما

أو المتطرفون..

التاريخ ما زال يسخر من الشعراء منذ أن طردهم أفلاطون من جمهوريته السعيدة، وقادهم إلى حدودها بالأناشيد: فهتفوا معه حبا في الأغنية ونسوا المنفى السعيد!

ولم يثبت أنه قتلهم، كما يفعل عرب التاريخ المعاصر!

يموت الشعراء لأنهم شعراء، وليس لأنهم مواطنون في بلاد مغلقة، يقودهم لسانهم إلى حتفهم لأن الشعر عقيدة مضادة لعقائد القتلة.

هم ليسوا الشعب، لكنهم يقتربون من الشعب، عندما يقلدونه في كراهية الحاكم أو في القرابة مع خبز الوالدة!

وهم ليسوا الشعب، لكنهم يبتعدون فيه كلما غنوا لثوراته المجهضة أو لأبنائهم وهم يحملون محفظات اليأس فوق ظهورهم ويتوجهون إلى المستقبل بِحيرَة المنفيين فيه!

الشعراء لا يصْحون من شعرهم معافين: يحملون دوما مسدسا من كابوس البارحة،

أو رصاصة أو دما،

أو يحملون خيبة حب!

ويعتقد الشعراء، عن غير حق دوما، بأن قصيدتهم صفة من صفة المقاومة، إلى أن يثبت أنهم بشر يُقْتلون، وتنتهي أعمارهم مثل حفنة من الأرز!

ومثل غيمة قاحلة ….

ويعتقدون بكبرياء أنهم ضروريون للأمل

في الوقت الذي يتفننون في اليأس!

وينتظرون من الوردة أن تجدد عمرهم،

وهم في واقع الحال يشحذون خيباتهم مثل مقص البستاني..

الشعراء اليوم يعتقدون بقوة الشعر السحرية في ترويض البشرية: لكنهم عندما يوسعون خيالهم تضيق الأرض بهم: في العراق وسوريا و الخليج  العربي والفارسي، يسجنون ويسحلون ويشنقون  لأجل مائة كلمة من أجل بلادهم..

هناك حيث تستعمل القصيدة كوسيلة من وسائل الجريمة ويعيد الشاعر تمثيل نكايتهم به، وبأمثاله على مرأى من العالم الحائر.

لمن تكتب، تسألك الطالبة، فتنظر في عينها مطولا وتكاد تعتقد بأنك تكتب لها

تقول: أكتب لها، فتزداد حيرتك وتبتسم هي من ارتباكك.

لمن تكتب تسألك المناضلة: تنظر مليا في شفتيها وتنتظر الجواب منها، ولما تعجز تتركك وتذهب إلى النثر!

حياتها التي تجيدها!

وقد تكتب الشعر لكي تستعيدها من ضباب حيرتك

أو تسترجعها إلى فراغها العاطفي، وتستدرج الوردة إلى سياجها وتنبهه إلى أن الوطن لا بد له منها لكي يكون كامل القضية.

لا الحب حب

ولا الوطن وطن

ولا القضية قضية بدون نرجسيتك المفرطة وثقتك العمياء في اللغة أيها الشاعر.

تكتشف الشاعرية الجديدة أنها لا تجاور اليأس إلا إذا كان يعني الإنسانية، وهو في الحقيقة التمرين القاسي، لكنه ضروري لكي تحلم بالأشياء العصية، ولكي تنقذ ما يمكن إنقاذه من نثرية الواقع.

إنهم هؤلاء الشعراء يَرِثون الشوك ولكنهم لا يذكرون سوى العبير من الوردة التي كانت ذات يوما عنوان حياتهم.

ولما عممت السينما صورتها على كل بصائر العالم، وجدت الصورة الشعرية إمكانيتها الوحيدة في أن تغري العالم باليأس، تلك الغمامة الضرورية للمهابة الإنسانية المطلوبة في المطلق!

لم يعد الشعر، ممكنا إلا باليأس، من أن تكون البشرية أفضل ذات يوم، مما يصورها الساسة وباعة السلاح وموظفو الحقيقة في بنوك العالم والفصائل القائمة في ضيق  التنفس الذي أصاب الحضارة..

الشعر؟ إنه الحق في اليأس إذن!

إن ما نتمناه، حقا عندما نكتب هو أن نكتب يأسا جميلا!

ولكي تكون القصيدة عشبة اليأس، حتى يطول الشِّعْر، كما تحلم بذلك النساء في خيالنا المفرط، يشعر الشاعر بأن عليه أن يتمنى انقلاب العالم

واللغة

وتشظي العاطفة!

يحلم بمجرى جديد للغة، باستعمال لغة طاعنة في السن!

ويتمنى أن يستعيد فرحه كاملا، بعد تمارين اليأس الكثيرة، ويحدث ألا تتحرك الأقمار التي رآها، قبل القصيدة في نهر ما ويحدث ألا يرى غابة النخيل أو عصافير النهر نفسه ولا يجد الانسجام الضروري بين الشعر واليأس، فيعود إلى واقعه: يتأرجح بين اللغة والصلاة!

من حسن حظ الشاعر أن أعماقه تنقذه، لا بالصور التي تنبثق فجأة أو التي تنتجها الموهبة وحظها، بل أيضا من الارتباك الكبير والمقدس الذي يحدث كلما اقترب من اللغة! أو بدون وسائل للحيطة أو تخفيف الصدمات..

من حسن حظه أنه يجدد ماء اللغة باليأس منها!