تناولنا في الورقة السابقة مقاربة الأستاذ مصطفى بن حمزة لمؤسسة إمارة المؤمنين على ضوء مداخلته في ندوة وجدة حول "العقيدة الاشعرية والسياق الحضاري"، وكذا في بعض ما ورد في كتابه الموسوم بـ"المكون الديني ضمن الرأسمال اللامادي بالمغرب" وقد و قفنا على ازدواجية الموقف بين خطاب ظاهر يحاول أن يقنعنا بالولاء إلى مرجعية إمارة المؤمنين وبين باطن يربط إمارة المؤمنين بخلفيات وشروط تاريخية بمضمون أيديولوجي، وقد وظف في ذلك السيد بن حمزة "بولميك" أصولي عبر ممارسة اللعب على الحبال عند تناوله لمؤسسة إمارة المؤمنين باستخدام قراءة انتقائية للتاريخ الإسلامي والتاريخ المغربي عبر استدعاء ما يوائم مطلبه السياسوي الأيديولوجي وذلك للوصول إلى خلاصة مؤداها أن الحركة الأصولية هي التي تمثل "المشروعية الدينية" بالمغرب المناطة بها إعطاء هذه المشروعية لمنصب إمارة المؤمنين.
وما يؤكد ذلك إضافة إلى تصريح الريسوني -الذي أوردناه في مقالنا السابق- والذي يحمل في مضمونه ضرورة تخلي إمارة المؤمنين عن تدبير الشأن الديني ليقوم به المهربون أنفسهم والذين أصبحوا يحتلون مواقع متقدمة، متصدرين المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف ودار الحديث الحسنية والهيئة العليا للإفتاء وهذا يؤكد على أن ثمة منهج وطريقة معينة يشتغل عليها العقل الأصولي في كليته وفي اطار مشروع معين.
- من هذا المنطلق كانوا ينتظرون عند كتابة مشروع الوثيقة الدستورية أن تتألف اللجنة الدستورية اسما من أسمائهم، للحصول على حصانة دستورية أكبر، ليمنحوها لأنفسهم بعد أن تتم سيطرتهم الذهنية والكمية البشرية على هذه الهيئات، وهو ما عبر عنه مصطفى الخلفي في عموده ضمن الجريدة التجديد عدد2406 –التي أوردناها في مقالنا السابق ( ص07) بالمطالبة بـ" دسترة المؤسسات المرتبطة بإمارة المؤمنين وخاصة المجلس العلمي الأعلى، والهيئة العليا للإفتاء......."، فهذا الحرص وهذه المطالبة تجري مقاصدها في إطار التمكين الدستوري لاختراق الحركة الأصولية لهذه المؤسسات والتمكين للإنقلاب الداخلي البارد على إمارة المؤمنين وبغطاء دستوري، ومن ثمة قرصنة باقي المؤسسات بالتوازي، وهو ما عبر عنه المقال المرقم بالرقم (04 ) في الصفحة( 07) ضمن الملف نفسه بالقول: "لكن القراءة المتفحصة لديباجة الظهائر تثير ملاحظتين جوهريتين: الأولى أن الظهائر التي تشرع أو تنشئ مؤسسة دينية..... تكون صريحة في الإحالة إلى إمارة المؤمنين كصفة .... والثانية أن التشريعات أو المؤسسات التي ينشئها الملك...فهي لا تثير إمارة المؤمنين" لكن كاتب المقال لم يعلق على ما أسماه بالملاحظتين الجوهريتين طيلة مقاله، وهو ما يفهم منه تعليق بالغمز الصامت مفاده أن هناك فصلا علمانيا من لدن ملك البلاد يجعل إمارة المؤمنين مقتصرة على المؤسسات الدينية، ويغيبها عن باقي المؤسسات الدستورية الخاصة بالحكم، ولعل هذا في حد ذاته يعتبر جوهرا من جواهر الصراع مع العقل الأصولي في مشروعه الذي يريد من خلال اختراقه للمؤسسات الدينية المنتظمة تحت إمارة المؤمنين والتي نرى أن تدبيرها موكول لأمير المؤمنين وحده لا لغيره، فبعد إنهاء المشروع الأصولي اختراقه لإمارة المؤمنين ومطالبته بدسترة المؤسسات التي اخترقها ليحصن نفسه دستوريا، لأن أمير المؤمنين حسب تصريح الريسوني الفاضح " غير مؤهل لتدبير الشأن الديني " "أي أن يسلم تدبيره للمهربين الذين يعتقدون أنفسهم المؤهلين للتدبير" ، ومن ثم يتم تمرير هذا العنوان إلى باقي المؤسسات الدستورية للدولة فتكتمل بذلك دائرة الاختراق الأصولي للدولة، وهو ما تكرر من خلال عدة عبارات في ملف الجريدة.
- من الأمور المثيرة للغرابة حقا هو أن السيد مصطفى بنحمزة يعتبر رئيس المجلس العلمي المحلي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى الوحيد الذي يدخل في كل الجدالات الفكرية والدينية مع كل القوى الاجتماعية والسياسية والحقوقية والأمازيغية بالمغرب ويظهر في ذلك جدية وحماسة ويتحول إلى اللسان المعبر لمواقف المجلس العلمي الأعلى، ولكن بالمقابل لم نراه بهذه الحماسة العلمية والأكاديمية عندما تعرض الريسوني لمنصب إمارة المؤمنين و اتهامه لجلالة الملك بأنه " غير مؤهل لتدبير الشأن الديني". وكذا عند طعنه في بيعة أمير المؤمنين، فنحن نلتمس من الأستاذ مصطفى بنحمزة أن يجيبنا على هذا الأمر الذي "استشكل" علينا !!!
- ان المشكلة الجوهرية لجماعات وأحزاب التهريب الديني بالمغرب في منازعتها إمارة المؤمنين الشأن الديني تقوم ب "استثمار هذا الشأن" كرأسمال عقائدي للشعب المغربي لتمارس به السياسة، أي أنها توحي للناس بتديين السياسة في الوقت الذي تقوم فيه بتسييس الدين واللعب فيه وبه في الحلبة السياسية، لتكتسب بذلك ميزة تميزها عن باقي الأحزاب السياسية التي تمارس العمل السياسي والحزبي بما تقتضيه السياسة وليس بالدين كأداة، ونحن واثقون بأن المشكل سينتهي حينما تتوقف حركات التهريب الديني عن الاستثمار والاستغلال السياسوي والحزبي للشأن الديني الذي يتساوى فيه بكافة المغاربة، وبهذا تتساوى مع باقي الأحزاب السياسية ، وتتوقف عن ملاكمة إمارة المؤمنين من الداخل والخارج وذلك بعدم منازعتها خصوصياتها والاعتداء على حقولها بأقنعة لغوية وتنظيمية مصطنعة، وبذلك تتوقف أيضا الممارسات البابوية على الشعب المغربي.
-أن يقول بنحماد في ندوة أقامتها حركة التوحيد وبحضور مشارقة ومن العالم حول موضوع التدين في المجتمع، وتنشرها جريدة التجديد، ويقول فيها: "بأن مؤشر التدين في انخفاض في المجتمع المغربي"،ونحن نتساءل هنا: من منحه هذه الصلاحية؟ وهذا اللسان؟ ليتجرأ ويقوم عقائد المغاربة؟ وكيف تمكن من قياس هذا الانخفاض في الشعب المغربي؟ وبأي تيرموميتر قاس هذا الانخفاض؟ هل بالملابس؟ أم بالعبادات ؟ أم بماذا؟ وهنا لا بد من التذكير بأن هذه الجرأة في تقويم عقائد الناس لا يمارسها تجاه شعبه حتى أمير المؤمنين نفسه وملك البلاد فكيف بالمهربين بأن يمارسوها بصفتهم لاعبا سياسيا إلى جانب باقي السياسيين؟ إن أمير المؤمنين الذي يسير الشأن الديني لا يقوم بمراقبة وفحص عقائد الناس وعباداتهم فكيف يتطاول عليها المهربون ومن داخل الحقل السياسي؟
وفيما يتعلق بالغمز واللمز الذي أرسله السيد بنحمزة في الندوة والكتاب -السالف الذكر- والتي نستغرب فيهما مقاربة السيد بنحمزة لمؤسسة إمارة المؤمنين بمنهج تاريخاني ماضوي مشحون بالخلفيات الإيديولوجية والسياسوية، متجاوزا فيه المرجعية الدستورية لهذه المؤسسة التي حسم في امر مشروعيتها الدستورية والدينية والسياسية والتي كنا نتمنى من الأستاذ مصطفى بنحمزة ان يشير اليها ولو عابرا، لكننا وللأسف وجدناه مليئا بالتيه وسط التسميات والعناوين والتواريخ والفروق الوهمية فيما بينها، بطرحه لعبارات: " إمارة المؤمنين " و "إمارة المسلمين " و "ومنصب الرئاسة" و" الإمامة العظمى"، ومما يظهر خواء هذا الاستعراض الاصطلاحي الذي سلكه صانع الندوة والكتاب هو:
1- محاولته إظهار الاعتماد على التاريخ الإسلامي عامة والمغربي بخاصة، ومع اعتماد صانع الندوة والكتاب على كتب التأريخ الاسلامي، إلا أن الظاهر بأن كاتب الكتاب وملقي المداخلة لم يقرأ عمق التاريخ المغربي وعظمة الدولة المغربية وكيف ومن أين تجذرت الهوية والمشروعية الدينية للدولة المغربية من بن تومرت الى سيدي محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف، وذلك نقاش ليس مقام التفصيل فيه هذه الورقة .
2- كما انه ثمة فرق بين اعتماد الأخبار القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب وتقيأها، وبين فلسفة التاريخ التي تجعل المؤرخ يقف على" دينمو التاريخ"، والذي يمكنه أن يتكرر من خلال إدراك حركته الأفقية والعمودية سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وهو ما يجعل كاتب كتاب " المكون الديني ضمن الرأس المال اللامادي بالمغرب" أبعد ما يكون عن التأصيل التاريخي لأمارة المؤمنين كمفهوم تاريخي وسياسي، ليس في حركة الأمة الإسلامية فحسب، بل في حركة المجتمع المغربي في سيرورته التاريخية والثقافية لهويته المتميزة عن باقي مكونات الأمة الإسلامية، وهذا يعد في نظرنا، خلافنا الجوهري مع المهربين الدينيين الذين يمارسون السياسة بكونهم فرعا لحركة عالمية ترى وحدة الأمة على مستوى الهوية، في حين نرى بأن هويتنا المغربية تختلف بعمق عن باقي مكونات الأمة الإسلامية.
3- حينما يتم طرح إمارة المؤمنين في الدولة العصرية المؤسساتية لا ينبغي النبش في المصطلح وتقليبه ظهرا عن بطن، كما لا ينبغي النبش والتقيد بمفاهيم وأخبار التاريخ والماضي وأحداثها في علاقاتها بالاصطلاح، فأهمية إمارة المؤمنين في علاقتها بالدولة الحديثة الديمقراطية تكمن في مقصديتها وليس في قدمها وتراثيتها أو في تركيبتها اللغوية والاصطلاحية، وحينما نقول مقصديتها – حتى لا يبقى كلامنا فضفاضا- نركز بالأساس على علاقاتها بمحيطها السياسي الذي تتحرك وسطه، وليس بالغيبيات اللامرئية، لأن تلك الغيبيات لايشهدها ولا يشهد عليها أحد إلا الله تعالى، فالعلاقة بين المحيط المدني والسياسي والحقوقي و الإجرائي المؤسساتي عامة هو المؤشر النابض، وهو الذي يمنحها حيويتها ودينامكيتها، أي في علاقتها بالمفاهيم والكيانات السياسية وتنظيماتها الحزبية المتعددة والمختلفة في ممارساتها السياسية وفق اجتهاداتها المتحركة، كتمثيلية للجماهير من جهة، وفي علاقاتها بالمؤسسات الدستورية المنتخبة من جهة أخرى، وفي علاقتها بالفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان وتشريعاته ومدوناته العالمية أيضا، وبحركته الحقوقية كفعاليات نقدية لتدبير الملفات اليومية لحقوق المجتمع في شخصيته الكلية، ولحقوق الإنسان في شخصياته الفردية، وبدون تميز.
إن الحركة الأصولية تستغل عدم فهم وإدراك النخب السياسية والفكرية بالمغرب لمخططاتها الباطنية ومنهج عملها الذي يعتمد المناورة والزئبقية والتقية في ترسيم الاهداف وتحديدها الى تكتيكي مرحلي واستراتيجي لتمرير أجندتها . وللأسف الشديد ، فان المشكلة التي لم يعها بعض الجاهلين لعمق الصراع مع التهريب الديني هي انه يقرؤون طبيعة الصراع مع التهريب الديني ايديولوجيا وسياسويا وعليه فهم يقدمون قراءة دفاعية عن التهريب الديني بدون ملامسة جوهر المشكل.