لم يعد مسموحا، بعد الآن، أن تتحدث مدارسنا لغة اللهب والنار كلما تعلق الأمر بالدين الإسلامي، خاصة أن علاقة المغاربة بدينهم أصبحت منذ مدة تقوم خارج الوساطات المؤسساتية (الدولة)، بل تميل، مع «الهجوم المذاهبي» الطليق، إلى أن تصبح مجهولة الهوية وفردية ومباشرة، وهو ما يجعل التدين المغربي موضع تساؤل كبير، وفي صميم الرهانات التي ينبغي الانكباب على معالجتها بالحزم والجدية الضرورين.
إن الانتباه إلى هذا التسيب التربوي هو ما حذا بالملك محمد السادس، يوم السبت 6 فبراير 2016، ومن قلب العيون، إلى اتخاذ قرار يقضي بمراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية في مختلف المستويات التعليمية من أجل تكريس قيم التسامح والاعتدال، حيث أصدر تعليماته لوزيري التربية والأوقاف، بضرورة مراجعة مناهج وبرامج تدريس التربية الدينية، سواء في المدرسة العمومية أو التعليم الخاص.
وبالرجوع إلى التعليم الديني، يتضح بما لا يدع مجالا للشك أنه واقع تحت هيمنة فقهاء متطرفين يجتهدون، كل بقدر معين، في صناعة التطرف، وتغذية عقول المتمدرسين بنصوص مكفهرة وجامدة، ولا تتكلم لغة العصر. وأغلب هؤلاء يقدمون أنفسهم، داخل المدرسة، سواء المدرسة العصرية أو معاهد التعليم العتيق، كسلطة خاصة مكلفة بتأويل النصوص الدينية، وهم في الأغلب الأعم من الذين شربوا التمثلات المشرقية الدينية المتكلسة. والحال أن هذا الاحتكار الديني ليس بإمكانه سوى أن يؤدي إلى قولبة النص الديني، وإلى تأويله تأويلا متحجرا، وإلى تجميد «الاجتهاد» في لحظة غير تاريخية بتاتا.
إن هذه الوضعيات التي يكون فيها العرض الديني في المدرسة (خاصة التعليم العتيق) متاحا ومتنوّعا وغير متجانس، هي التي تتولد عنها اختيارات وتوليفات شخصية يمكن أن يستغلها المتطرفون من أجل ربح مساحات إضافية، ومن أجل دس السموم في عقول التلاميذ والأطفال، مما يتطلب إعادة النظر في المناهج، وفي وسائل المراقبة؛ ذلك أن هذا النوع من التعليم يكاد يكون خارج الرادار، وخارج المناهج الدراسية، وقريبا من قناعات هؤلاء الفقهاء الذين يحتشد في قلوبهم التطرف والكراهية، وفي عقولهم إرادة العودة بالناس إلى زمن الجاهلية، حسب مفهومهم للتأويلات المتحجرة والمتخلفة.
لقد أحسنت الدولة، صنعا بالانتباه إلى مراجعة المناهج الدينية، خاصة أن ما يلزمنا هو إعادة الاعتبار للمعرفة الدينية على الوجه الأكمل، ما دامت هذه الأخيرة، التي يحتكرها المتطرفون، لا تحتل موقعا مركزيا في الحياة الدينية، إذ هناك تفاوت واضح بين ممارسة الشعائر وبين المعرفة الدينية. ولذلك، فإن المغاربة عموما متسامحون وغير متسامحين، منفتحون ومنغلقون على الآخر، مفتونون بالإسلام ومرتابون إزاءه. هم مقيمون في العتبات، لأن المعرفة تنقصهم، ولا معرفة بدون الاستعانة بالمفكرين والفلاسفة والباحثين والمتخصصين في العقائد والعبادات وعلوم اللغة وأصول الفقه وسياقه والحديث المتشبعين بإنجازات العلوم الانسانية والتاريخ وبحب الحياة وحب الآخروحب العمل.
إن إنجاح الاستراتيجية الجديدة التي يتعين وضعها لمراجعة المناهج التربوية الدينة، يتطلب أساسا، وفي المقام الأول، الانتباه للتعليم العتيق الذي تم تهريب العديد من مدارسه تحت غطاء الإحسان، والعمل على صياغة مخطط لما يجب أن يكون عليه هذا التعليم مستقبلا، إذ لا شك أنه ركيزة من ركائز منظومتنا التربوية والتكوينية، لكن ترك الحبل على الغارب بالنسبة للمتحكمين فيه (الأصوليون المتطرفون) سيحوله إلى ركيزة للهدم والتفرقة والانقسام، وكأننا أمام نظامين تعليمين بقاطرتين متعاكستين، كل واحد ينازع الآخر ويحاربه ويطمح للقضاء عليه، رغم أن الهدف الحقيقي لكل المغاربة هو تأسيس مدرسة مغربية تتصاهر فيها كل المكونات، على أساس التشبع بالقيم الروحية المتسامحة، وقيم الحداثة. إننا لسنا بحاجة إلى فقهاء الشيشان وطالبان، ولا إلى فتاوي ابن باز والقرضاوي وابن تيمية، بل بحاجة إلى تعليم ديني متشبع بالحقوق وقيم الحداثة والعقل، وإلى الضرب بيد من نار على هؤلاء «الفقهاء» الذين يتلاعبون بالأمن الروحي للمغاربة، وإلى هؤلاء الذين يخضعون لأموال الوهابية والإخوانية بغاية «طلبنة» المجتمع المغربي أو «أخونته». ولن يتم ذلك، إلا بتحقيق معادلة ضخ الفكر الحداثي لمعالجة الدرس الديني لمصالحة المغاربة مع موروثهم ومع ثوابتهم المذهبية.
إن الغاية بطبيعة الحال من مراجعة المناهج الدينية داخل المدرسة المغربية هو تحصين الوضع الداخلي، خاصة أن المغرب مهدد من طرف الجماعات المتشدّدة والتنظيمات الجهادية التي توفر لها المناهج الدراسية المتحجرة العقول المغسولة ليسهل استقطابها. كما أنه مستهدف من أطراف خارجية للمساس بالثالوث الذي يجمع بين المغاربة (مذهب مالكي وعقيدة أشعرية وتصوف جنيدي)، وذلك عن طريق دفع مواطنين إلى تغيير دينهم أو مذهبهم، وهذا ما كان واضحا في الخطاب الذي أدلى به الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش حين أكد أن المغاربة ليسوا في حاجة لمن يأتي من «برا» من أجل أن يعلمهم الدين.
إن حفظ صفاء التدين المغربي وترشيد الإسلام «الشعبي»، يقتضي الحزم والصرامة مع كل من يستهدف الموروث المغربي.
تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك..
