خلف إطلاق النار على الشاب الذي هاجم مقر الشرطة في حي "غوت دور" بالعاصمة الفرنسية باريس تساؤلات كبيرة حول ما إذا كان نهج القوات الأمنية الفرنسية قد اتجه نحو التخلي عن مبدأ الحق في المحاكمة العادلة لفائدة التصفية الجسدية لكل من صدر عنه سلوك يوحي بأنه إرهابي، وقد اتضح من الأخبار المتضاربة التي تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية حول هوية الشاب والمنهجية التي اعتمدتها السلطات الأمنية في تحديدها، أن طريقة معالجة هذه الحالة افتقرت إلى الاحترافية التي يفترض فيها أن تجمع بين حماية الوطن من المخاطر التي تحذق به وبين حقوق الإنسان التي لعبت فرنسا دورا رياديا في مجال إقرارها ونشرها، بل إنها حرمت حتى السلطات الأمنية الفرنسية من فتح تحقيق مع الشاب بهدف الحصول على المعلومات التي يمكن أن تكشف عن المزيد من المخاطر التي تحذق بفرنسا.
الأخبار الأولية التي تداولتها وسائل الإعلام الفرنسية، نقلا عن المصادر الأمنية، أوهمت الرأي العام بأن المهاجم شاب مغربي يسمى صلاح علي، وهو من مواليد سنة 1995 بالدار البيضاء، وسبق اعتقاله سنة 2013 "أي قبل أن يبلغ سن الرشد" بجنوب فرنسا من أجل سرقة نظارات.. وهذا الطرح تم تأكيده استنادا إلى تحليل البصمات وإلى تصريحات من قيل عنهم بأنهم تعرفوا عليه وقالوا عنه بأنه كان من الذين لا يتوفرون على سكن قار، أما آخر الأخبار فتفيد بأن الشاب القتيل يسمى طارق بلقاسم وهو تونسي الجنسية وفق ما تضمنته الورقة التي كانت بحوزته، والتي كتبت باللغة العربية، ووفق شهادة قريبة له.
التضارب في المعلومات فرض على السلطات الأمنية الفرنسية التخلي عن التصريحات الصحافية المبنية على اليقين والاقتصار على تصريحات مبنية على الشك، وإلى أن تنكشف الحقيقة فإن السلطات الأمنية الفرنسية مطالبة بالبرهنة على أنها فعلا في مستوى المهام المنوطة بها خاصة أن التصريحات الأولية اعتمدت على الوثائق التي تم العثور عليها بحوزة القتيل وذكّرت بتعليمات داعش التي تحرض على قتل الفرنسيين كلما تأتى لهم ذلك.
لو استمر الوضع على هذا الحال لأمكن القول بأن داعش تحقق المزيد من الانتصارات في الساحة الفرنسية ومن خلالها الساحة الأوروبية، فالضربات الجوية التي تصيب مواقع داعش في سوريا والعراق وغيرها لم يكن وقعها على الإرهابيين بنفس الحدة التي أصابت المجتمع الفرنسي بفعل العمليات الإرهابية التي هزت أركانه خلال سنة 2015، ففرنسا التي تتخذ من الحرية والمساواة والإخاء شعارا لها، صارت تستمد نهجها الأمني من النهج الإسرائيلي الذي لا يتردد في إطلاق الرصاص على الفلسطينيين بدعوى أنهم يحملون أسلحة بيضاء وهناك مخاوف من أن يكونوا مسلحين بأحزمة ناسفة، والحرية التي كانت تقوم في فرنسا على المحاكمة العادلة صارت تخضع لمنطق حالة الاستثناء، أما مهارات القوات الأمنية فسرعان ما افتقدت دلالاتها بعد أن صار الخوف هو المتحكم الأساسي في تعاملها مع المخاطر التي تواجهها.. وخير دليل على ذلك أن الشرطي الفرنسي تعمد قتل الشاب عوض إصابته في مناطق من جسده تبطل خطورته وتؤمن إلقاء القبض عليه حيا لتحقق بذلك هدفين نبيلين أولهما تمكين القضاء الفرنسي من تعميق البحث، وثانيهما تمكين الشاب من الحق في محاكمة عادلة.
إن فرنسا التي أعلنت الحرب على الإرهاب تجد نفسها اليوم في موقع لا تحسد عليه، فلا هي ألحقت ضربات موجعة بالعقول المدبرة للإرهاب، ولا هي حمت المواطنين من الضربات الموجعة التي فضلا عن كونها خافت خسائر بشرية ومادية فإنها دفعت بالنخبة السياسية الفرنسية إلى التخلي عن مبادئها والارتماء في أحضان العنصرية والكراهية، بل إلى الاعتداء على الحق في الحياة والحق في محاكمة عادلة. إنها الهوية الجديدة لفرنسا القرن الواحد والعشرين.
(المصدر: موقع "الوافد")