الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

عائشة التاج: النصح العشوائي المتدفق على حياتنا الاجتماعية

عائشة التاج: النصح العشوائي المتدفق على حياتنا الاجتماعية

بقدر ما يكره الغربيون أسلوب سرد النصائح خارج سياقها المطلوب، ويحرص كل منهم على تعامل يطبعه الرقي واحترام فردانية الآخر، ولو ضمن التراتبيات الأسرية أو المهنية حتى، بقدر ما تحاصرنا أمة ثقافة "الوعظ والإرشاد" المتدفقة عبر مختلف جيوب نسيجنا المجتمعي بسيول من النصائح التي تتهاطل على حواف تفاعلاتنا من كل حدب وصوب، ومن طرف من هب ودب، وفي كل المجالات والتخصصات، لتردي بها في متاهات الضبابية والغموض والالتباس .

عجيب جدا أمر هذا الاستنساخ اللامتناهي لشخصية المفتي الواعظ التي تتخلل مختلف علاقاتنا الاجتماعية.. والأعجب منه تلك القدرة على توفير الوصفات المفترض اتباعها من طرف "رهط" لا يملك أية خبرة أو معرفة أو تجربة في المجال، بل لم يطلب منه أحد التفضل بما يجود بهمن "معطيات" قد لا تحترم سياق التفاعل الإنساني ولا زمانه ولا مكانه ولا أية حيثيات تواصلية ...

ذلك أن شرائح واسعة تتطلع بشكل مهووس للعب دور "الواعظ " و"المرشد" في هذا المجال أو ذاك فيتربص بأول فرصة لتقزيم محاوره لدور التلميذ أو حتى المريد الذي عليه أن يتلقى لائحة من الوجوبيات أو المنهيات في أمور قد تهم حياته الخاصة جدا جدا ولم يسبق أن طلب إزاءها رأيا أو نصحا أو توجيها حتى.. إلى أن يفاجأ بأنه أمام سياق علائقي لم يختره، بل أمام اقتحام شرس لخصوصياته وعليه تدبير هذا النشاز في ديناميكية علاقة قد تختلف في عمقها الزمني والإنساني، لكنها تفترض ضرورة احترام كل منهما  لفردانية الآخر واختياراته.

ذلك أن ما قد يجمع اثنين في مجال أو زمن معين لا يعطي بالضرورة لهذا أو ذاك مشروعية الغوص في ما لا يعنيه  مادام لا يؤذيه بأي شكل من الأشكال، فبالأحرى أن يبدأ في تقديم وصفاته التوجيهية..

لنجرب أن يسأل أحدنا طبيبا عن مرض خارج اختصاصه، سيحيلك أوتوماتيكيا على ذوي الاختصاص ولن يسمح لنفسه بالإفتاء فيما لا يتقنه. لكن "رهط الغوغاء" لن يتردد في إعطاء الوصفات العلاجية مثلا في مجال الأعشاب حتى وإن كان لا يعرف العشبة التي يذكرها فقط سمع ذلك في مذياع أو ما شابهه معتقدا بوثوقية في صواب ما يقوم به..وطبعا نفس الطريقة تنطبق على كل المجالات وبدون استثناء،مسبوقة بأسئلة اقتحامية عن أمور لا تعني السائل ولا علاقة لها بسياق الحديث ولا بغاياته وأهدافه، فقط نزوع مهووس لاختراق حميمية الآخر..وجمع أكبر قدر من المعلومات عن "حياته" وفق ما تمليه حيثيات ثقافة الجاسوسية الاجتماعية المجانية، حيث الكل يتجسس على الكل ويشكل في نهاية المطاف ذلك الرصيد الاحتياطي لما قد يعتبر "مهارات مميزة لأجهزة أمنية  معينة عند ىالحاجة".

ألا يعبر هذا الإصرار على اقتحام شؤون الآخرين على "استبداد ثقافي" يصر على فرض أسلوب نمطي لأمة أريد لها أن تعيش كالقطيع؟؟؟؟

وعليه فالكل مطالب إن شاء أو أبى أن يخضع لأعراف مفروضة بقوة "ضبط اجتماعي" يتعبأ الجميع لفرض إكراهاته  وبآليات مختلفة منها "الوعظ " المكرر في الزمان والمكان ليذكرك بضرورة الانخراط في قوالب جاهزة ومعدة سلفا لفرض نظام اجتماعي غير قابل للاختلاف..نموذج تنميطي تزعجه كل الانفلاتات بأشكالها ويعتبرها بوعي أو بدونه "زيغا" يجب رده للصواب عن طريق النصح أولا والعقاب الاجتماعي الذي قد يختلف في مستوياته وأدناها  النميمة والاستنكار، وهلم جرا...

والأغرب من كل هذا أن يعتبر أي خروج عن النمط مهما كان خروجا مسالما ووديعا ولا يضر بأي كان أمرا مزعجا للبعض، فيسعى ولو عن حسن نية لتذكير صاحبه أو صاحبته بضرورة  احترام ما حددته "الأعراف" في هذا المجال، دون أن يسأل المعني بالأمر هل شارك في صياغة هذه الأعراف وما هو نصيبه المبدئي كفرد وكمواطن له وجوده الخاص في التأثير وإعادة الصياغة بما يتلاءم مع الهنا والآن؟؟ ومن هنا يبدو أنه قد حان الوقت لإعادة الاعتبار للفرد ككائن له حق الإبداع والاختيار لأسلوب حياته وأيضا حق التأثير في منظومة الضبط الاجتماعية بنفس الشكل الذي يطلب منه الانصياع لتأثيراتها كي لا يبقى مجرد مستهلك لأعراف لا تناسب زمانه و حيثياته النفسية والاجتماعية والقيمية.

لقد حان الوقت لإنتاج كائنات مبدعة، خلاقة ولن يتأتى لها ذلك إلا إذا انعتقت من كل أساليب التنميط الفكري والوجداني والعقائدي،حتى يكون كل إنسان سيد ذاته أولا وأخيرا.

لقد حان الوقت كي تتمطط الأعراف لاحتضان قيم "جديدة" تسائل التصنيفات والنمذجات والقوالب العتيقة بشكل يحترم الحريات الفردية،حتى تغدو الحياة الاجتماعية فسيحة بما يكفي لكل الشرائح، وأهمها الشريحة المجددة للسلوكات والقيم بما يتناسب وسقف العصر الذي نعيش فيه هنا والآن داخل عالم أضحى قرية صغيرة.