الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

سفيان الحتاش: في الذكرى الثانية لرحيله.. الإدريسي حياة مفكر مستنير ومثقف مسؤول

سفيان الحتاش: في الذكرى الثانية لرحيله.. الإدريسي حياة مفكر مستنير ومثقف مسؤول

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الثانية لرحيل الباحث الأمازيغي والمفكر المغربي الكبير د الحسين الإدريسي رحمه الله، أو مفكر إعادة الاعتبار للهوية المغربية كما يحلو للبعض أن يسميه، بالنظر إلى إسهاماته الوفيرة والنوعية في الحقل الأمازيغي والديني المغربي في إطار الدفاع عن الهوية المغربية في كل روافدها وأبعادها. ففي مثل هذا اليوم 27 10 2013 من سنة 2013 أسلم الأخ والصديق الحسين الإدريسي الروح إلى بارئها لتحلق في سماء الملكوت الأعلى وهو في أوج عطائه الفكري والمعرفي، وقد شكل رحيل الفقيد صدمة قوية لمعارفه وأسرته ولأصدقائه وترك فراغا مهولا على صعيد العمل الثقافي والفكري الأمازيغي وكذا دوره الفكري التجديدي من داخل الحقل الديني، حيث اشتغل الفقيد لسنوات طوال وهو يدافع عن الشخصية الدينية للمغاربة مدافعا ومنافحا عن الخصوصية الدينية للمغرب ومتصديا بلا هوادة للخارجية الوهابية البدوية الآتية من صحاري نجد وكل التيارات الأصولية القادمة من المشرق التي تتعارض وتتناقض مع الإسلام المغربي الحضاري المتمدن المتسم بالوسطية والاعتدال والتسامح.

ولد الحسين الإدريسي  في أسرة ريفية تقليدية كغيرها من أسر الريف. كان أول اتصال له بالعلم والمعرفة من خلال الكتاب القرآني حيث حفظ  فيه ما تيسر من كتاب الله والمبادئ الأولية للغة العربية. هذا الاتصال التعليمي الديني المبكر بالتدين التقليدي كان له الأثر الكبير على الشخصية الفكرية والعلمية للراحل وستصقل فيما بعد  بدرجة كبيرة شخصيته وهويته الثقافية والفكرية من حيث توجهه في الدفاع عن الهوية الوطنية الدينية والحضارية للمغاربة واختياراته الأكاديمية بصفة عامة، حيث يعتبر المرحوم خريج التعليم الأصيل والعصري قبل أن يرتاد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول بوجدة التي حصل فيها على الإجازة في اللغة العربية وآدابها ثم على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الآداب المغربي الأندلسي ثم شهادة الدكتوراه في التخصص نفسه كما حصل على شهادة التبريز في اللغة العربية وآدابها بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط. عمل الراحل كأستاذ التعليم العالي وأستاذ مبرز بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، وعمل أيضا كأستاذ محاضر وكباحث زائر بكلية الحقوق بوجدة.

انخرط الحسين الإدريسي في تفكير عميق في الشأن الديني المغربي وفي الصراع الدائر في الساحة، متصديا للخارجية الوهابية، ومدافعا عن الخصوصية المغربية  وكان من السباقين إلى دق ناقوس خطر التطرف الديني البدوي الصحراوي القادم من شبه الجزيرة العربية، موضحا أن للمغرب خصوصياته الدينية القائمة على الوسطية والاعتدال والانفتاح متمثلة في المدرسة المالكية المغربية والعقيدة الأشعرية وتصوف الجنيد في إطار مرجعية إمارة المؤمنين، وكانت لمقالاته النارية في جريدة "الأحداث المغربية" حول خطر الحركات الأصولية المتأسلمة التي تستهدف الهوية الدينية والثقافية المغربية المتشبعة بحضارة «تامزغا» المتنوعة المشارب والتي وسمها بظاهرة التهريب الديني بالغ الأثر في الأوساط الفكرية والثقافية والإعلامية بل وحتى الرسمية، مما سيجر عليه خصومات جانبية من رسميين وغير رسميين، منهم من له مشارب في الوهابية، ومنهم من له قصور في النظر ،إضافة إلى كوكبة الوهابية في المغرب وممثلي التنظيم العالمي ل«الإخوان المسلمين». هذه المواقف والكتابات الجريئة كلفته عقابا شرسا وانتقاميا ممن يسميهم الفقيد بالمهربين الدينيين المنبثين في المواقع الجامعية، بأن حرمته من منصبه في التعليم العالي.. ورغم أن إصلاح الحقل الديني في المغرب، كخطاب، تبنى مجموع ما جاء به الإدريسي من أفكار ومواقف وتوجهات وأبحاث، إلا أن الرجل لم يوف حقه، بل ظل يصارع الخارجيين من جحافل الوهابية والإخوانية المتأسلمة في وجدة والمندسة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وفي المجلس العلمي الأعلى. 

عاش الحسين الإدريسي مفكرا وباحثا مستنيرا واعيا مسؤولا وملتزما بقضايا مجتمعه ووطنه يتمتع برؤية شاملة منفتحة ومتطورة وقدرة فائقة على الإبداع وإدراك أوضاع العصر والمجتمع المغربي وذو إحساس مرهف وعاشق لكل ما هو مغربي أصيل. قاتل بكل ما أوتي من شجاعة وشهامة و بشكل ثابت للدفاع عن هوية المغاربة ومقومات الشخصية المغربية في وجه الحركات المتأسلمة وكل من كانت له المصلحة في مصادرة هوية هذا الوطن وحضارته المشرقة. وظل ثابتا على هذا الطريق منتصرا لقضايا العدالة والحرية لم يهادن أحدا ولم يخف في الصدح بالحق لومة لائم. حورب وجوبه من طرف القوي الرجعية والظلام من تجار الدين والانتهازيين وأصحاب المصالح الذين يريدون أن يصطادوا في الماء العكر ولكنه بقي مقاوما واقفا صامدا لم يضحي بالحقيقة من أجل المصلحة،.... ألف الدكتور الحسين الادريسي العديد من الكتب وفي كل كتاباته حاول تقديم صورة واضحة وأصيلة عن هوية المغرب وإسلامه الحضاري لاعتقاده بأنه إذا أدرك هذا الجيل الثقافي حقيقة الإيمان بهذه القيم فإن محاولة التغيير الاجتماعي ستكون ناجحة .... ومن مؤلفاته: الإسلام المغربي دفاعا عن الشخصية الدينية للمغاربة، من قضايا الشعر الامازيغي بالريف ، محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، الدور التاريخي لفاس في ترسيخ الشخصية المغربية، البرنامج التعليمي لعبد الكريم الخطابي، بالإضافة إلى عشرات المقالات والدراسات التي كانت كلها تأخذ من جذوة الحضارة المغربية قبس لها.

كان نموذج المثقف المستنير إلى جانب د المرابط و د يوسف حنانة وثلة من المتنورين.. الذين استطاعوا بحق إبراز معالم التدين المغربي ومقوماته العقدية والفقهية والفكرية والروحية في وجه المد الأصولي المشرقي الذي حاول ولا يزال مصادرة الموروث الديني المغربي وترويح الوهابية المكفرة والمبدعة للمنتوج الثقافي والفكري للمغاربة. أعاد الحسين الإدريسي الاعتبار للهوية والحضارة  المغربية الأمازيغية ومثل اجتهاده الفكري نقلة نوعية في تطور الفكر المغربي، واستدل بأن هذا الفكر وهذه الحضارة تمثل اليوم الحصانة والمناعة ضد أي اختراق إديولوجي وثقافي ظلامي يريد أن يصادر هذا الإرث خاصة إذا تم الاعتراف به وتم تجديده في إطار انفتاحه على منافع الحداثة والفكر الديمقراطي.

حياة الإدريسي كانت قصيرة (42 عاماً)، لكنها حياة عريضة مليئة بالعمل والإنجازات والنشاط والنضال والقراءة والإطلاع والدراسة والتأليف والتدريس وإلقاء المحاضرات. فالإدريسي باحث وكاتب ومفكر أمازيغي مغربي مستنير وخطيت مفوه ومناضل لا تلين له قناة، حيث ثبت أنه بالإضافة إلى نضاله ضد المهربين الدينين كان على اتصال بمختلف الحركات الحقوقية والاجتماعية، وكان عضواً نشطا فى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان .عاش الحسين الإدريسي مستقلاً فى تفكيره متمتعاً بروح وطنية عالية، وكان يؤمن بأن الكلمة أقوى من السيف، وأن الفكرة أبقى من المنصب. وقد استفاد من دراساته وثقافاته المتنوعة في صياغة أفكاره وآرائه، وكان يعول على الإنسان المثقف الواعي واتجاهه الاجتماعي وإحساسه بالارتباط الجماعي والتزامه الإنساني تجاه المجتمع والوطن.

ومن ألفاضه الخاصة: المهربون الدينيون، الإسلام المغربي، الشخصية المغربية، الهوية الدينية المغربية.

رحم الله الإدريسي وعاش فكر الحسين خالدا سرمديا يقارع الظلام وظلمات تجار الدين الذين جعلوا من رسالات أنبياء الله سلعة يهربونها للمتاجرة والانتفاع الدنيوي الرخيص، ونصبوا أنفسهم جمارك على عقائد الناس واختطفوا الدين الذي هو حق مطلق لتوظيفه في معركة الباطل المطلق، وبذلك تكون حركات المهربين الدينيين العدو الأول للدين وأكبر خطر يتهدده لأنها تضرب الدين بالدين ومن داخل الدين.